عندما نقرأ في التاريخ عن أعمار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد عجباً.
نجد أن الذين اختاروا الإسلام وحملوه على أكتافهم وساروا به على عكس التيار السائد والنظام المستقر وواجهوا شراسة السادة والأسرة والقبيلة، هؤلاء لم يكونوا من أصحاب الأعمار من الخمسين أو الستين فما فوقها إلا نادراً، ولكنهم كانوا كلهم تقريباً من الشباب، بل والأطفال أحياناً. هذه مثلاً بعض أعمار الصحابة عند دخول الإسلام كما نقرؤها في السيرة: علي بن أبي طالب (10 سنوات)، طلحة بن عبيد الله والأرقم بن أبي الأرقم (12 سنة)، عبد الله بن مسعود (14 سنة)، أسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص (17 سنة)، جعفر بن أبي طالب والزبير بن العوام (18 سنة)، عثمان بن عفان وصهيب الرومي وزيد بن ثابت وخباب بن الأرت (20 سنة)، فاطمة بنت الخطاب ومصعب بن عمير والمقداد بن الأسود (24 سنة)، عمر بن الخطاب وأسماء بنت عميس وأبو عبيدة بن الجراح (26 سنة)، بلال بن رباح وعمار بن ياسر (30 سنة). هؤلاء الشباب والشابات بعد عقود معدودة من أعمارهم غيروا مسار التاريخ الإنساني، وحملوا للعالمين رسالة التوحيد والحضارة والحقوق والإحسان، وضحوا في سبيل الحق بأموالهم وأرواحهم، وقاتلوا في سبيل العدل سلاطين الشرق والغرب وجيوشهم الجرارة.
وهذه سنة الله في الرواد والمصلحين ليس فقط في عصر الإسلام بل في كل العصور ومع كل الأنبياء. قال تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً)، وقال عن موسى عليه السلام: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)، وعن مريم عليها السلام: (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا)، وعن يوسف عليه السلام: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً)، وهكذا في سنّة ماضية وقانون لا يحيد.
ونظم الاستبداد تعلم جيداً أن الخطر الحقيقي على وجودها وبقائها هو الشباب، وأن التغيير العميق الذي يطيح بها لا يتم إلا بالشباب، والإصلاح العادل الذي يقتص منها لا يكون إلا من الشباب. ولذلك فقد قرر فرعون وهامان وقارون في زمانهم حين أرادوا أن تستقر دعائم الاستبداد والفساد وأن يعلوا في الأرض، قرروا ببساطة قتل الجيل الجديد حتى قبل أن يبلغوا مبلغ الأطفال. قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذِّبح أبناءهم)، وقال: (يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم)، وفي موضع آخر: (يقتلون أبنائكم). وأما باقي الرعايا تحت حكم الفرعون فقد استسلموا للاستبداد. وحين بعث موسى صلى الله عليه وعلى محمد وسلم، كان الذين تجاسروا على الإيمان به على خلاف رغبات الفرعون هم فقط … الشباب. قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم)، والذرية هم الشباب (راجع التفاسير – ابن كثير مثلاً). وكانوا هم وقود الاضطهاد والحملات والتصفية ثم التغيير، تماماً كما كان الشباب والشابات مع محمد صلى الله عليه وسلم وقوداً للتغيير والإصلاح والتجديد. وما أشبه الليلة بالبارحة!
فالشباب والشابات الذين يعيشون اليوم تحت نظم الاستبداد المعاصرة يُصنّفون سريعاً إلى قسمين لا ثالث لهما:
شباب ضد الاستبداد، وشباب مع الاستبداد.
القسم الأول شباب يؤمن بالقيم والمبادئ وعلى استعداد لأن يضحي من أجلها ولو بالحياة، في مقابل شباب ضائع الهوية تائه الأهداف قابل للتدجين والاستئلاف أو على الأقل الترويض في خدمة أهداف الاستبداد. وأما الأمارات والعلامات التي يعرف بها الشاب أو الشابة من أعداء الاستبداد، فهي الإيمان بالحرية، والإحساس بالكيان وبالشخصية والهوية، ينصر الضعيف والمظلوم ولو كان مختلفاً في الرأي، ويقف مع الحق والعدل ولو كان صعباً ومرّاً. وإذا شم ذئاب الاستبداد رائحة هذه الصفات في الشاب فقل عليه السلام. وبالتالي فنظم الاستبداد تستهدف المؤسسات التعليمية والمدنية بالأساس، وتنشر خطاباً مؤداه أن الشاب الصالح هو الشاب المهني المتخصص، الذي لا يدرس إلا تخصصه الدقيق، وليس له علاقة بقضايا المجتمع ولا الشأن العام ولا حقوق الإنسان ولا الدعوة إلى الدين أو الخلق … إلى آخره، فهذه مهمات أناس آخرين (متخصصين) في هذه المسائل.
وبالتالي فنظم الاستبداد تحرّم وتجرّم أن يتبنّى الشباب خاصة في سن الدراسة المدرسية أو الجامعية – أن يتبنّوا موقفاً سياسياً إلا مع الاستبداد، أو يعارضوا ظلماً إلا ضد رعايا الاستبداد، أو يطالبوا بالتغيير إلا التغيير الشكلي الفارغ، أو يعبّروا عن رأي مختلف في أي مجال، بالتظاهر أو الخطابة أو الكتابة أو الدراما أو الكوميديا أو الغناء أو الشعر أو النشر الإعلامي بشكله التقليدي أو في العالم الافتراضي. وهذه المجالات كلها هي مجالات الشباب، وهي بالتالي تقع تحت المراقبة والمتابعة من أجل تصنيف كل شاب وشابة لهذين الصنفين المذكورين: مع وضد، والتحرك سريعاً لإسكات (ضد) وتشجيع (مع).
وقد يسأل سائل: كيف يكون إذن بعض قيادات النظم المستبدة من الشباب؟
والجواب أن هؤلاء القياديين المستبدين من الشباب لا يحملون روح الشباب بل روح المراهقة، ونرى دليل ذلك في قراراتهم وسياساتهم التي جلبت كثيراً من الخراب في مختلف بلاد الاستبداد التي يحكمها (الشباب)، من المغامرة بحياة الناس وبمصائر الأمم، وفي عدم توخي الحكمة في استخدام العنف أو إنفاق المال أو تعديل القانون، وانظر إلى من يحيطون أنفسهم بهم من الحاشية ولن تجد إلا المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل الدهر، ولن تجد من يؤيدهم فعلاً وبحرارة إلا الجيل القديم الذي تعود الاستبداد فكبر عليه منهم الصغير وشاب عليه الكبير وسارت به الركبان واستقر عليه الأمر. والله المستعان. إذن، حين يسأل البعض في هذه الأيام: أين الشباب؟ أو
#الشباب_فين (باللهجة المصرية)، فالجواب هو أن الشباب الواعي الشريف موجود في كل مكان في بلاد الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولكن الاستبداد ينفق الغالي والنفيس لكي يمنع هذا الشباب من أن يكون على خطى يحيى أو موسى أو مريم أو يوسف (عليهم السلام)، أو أن يصبح علياً أو أسماء أو عمر أو فاطمة (رضي الله عنهم). ولكن، لا مفر من التغيير ولا مهرب من سنن الله في دورات الحق والباطل. هنا يحضرني قول الكواكبي رحمه الله في (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) مخاطباً الشباب: ((يا قوم: وأريد بكم شباب اليوم، رجال الغد، شباب الفكر، رجال الجد، أُعيذكم من الخزي والخذلان … أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطَّل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تُدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنَّهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنَّهم آباؤكم!)).
إذن، فليمضي الشباب والشابات على بركة الله في تغيير النفس والمجتمع والأمة والعالم، وما ذلك على الله ببعيد. ولعلي أستكمل كلام مولانا الكواكبي بأن أقول: ((يا شباب: ثقوا في أنفسكم وفي عقولكم وفي آمالكم، واثبتوا على إيمانكم وقيمكم ومبادئكم. تخيلوا واحلموا وفكروا خارج الصندوق وابدأوا في التخطيط والتنفيذ، ولو أعاقكم الجيل القديم من أمثالنا بتقاليدنا الجامدة وأطرنا الضيقة ومنطقنا الراكد، فانطلقوا أنتم واتركونا وراءكم، وابنوا مؤسساتكم ومراكزكم وشركاتكم وأحزابكم وجماعاتكم الخاصة بكم. تعلموا من دروس الماضي ومن حكمة المشيب، ولكن لا تجمدوا على ما تعلمتموه، ولا تضيقوا على أنفسكم واسعاً، ولا تنحصروا في ثنائياتنا الكاذبة ولا انتماءاتنا الموهومة. انطلقوا على بركة الله واحملوا الحق، فلن ينصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما انصلح به أولها.))
والله أعلم وأحكم، (وتلك الأيام نداولها بين الناس) – صدق الله العظيم.