هذه ورقة مختصرة تتناول علاقة مقاصد الشريعة بالاقتصاد الرقمي أو المعرفى، خاصة في وضع السياسات والأولويات التنموية، وفي الإسهام في تجنب سلبيات هذا الاقتصاد على الدول الضعيفة بشكل عام والإسلامية بشكل خاص. وتبدأ الورقة بمبحث يلخص تعريفات وتقسيمات المقاصد كما عّرفها السلف والخلف. ثم يقدم المبحث الثانى تعريفاً للاقتصاد المعرفى. ويسأل المبحث الثالث السؤال التالي:
هل تعتبر المعلومات (مالاً) من الناحية الشرعية يترتب عليها ما يترتب على المال من آثار؟ ويشرح المبحث الرابع طريقة البنك الدولى في تقييـم قوة الاقتصاد المعرفى، ويسأل بعض الأسئلة. أما المبحث الخامس فيجيب عن سؤال: كيف يمكن لمقاصد الشريعة أن تسهم فى تخفيف الآثار السلبية وتصحيح الأولويات والسياسات التنموية المختلة؟ ثم يقدم المبحث السادس تصوراً عن كيفية إسهام مقاصد الشريعة فى تنمية الاقتصاد المعرفى عند المسلمين، وذلك عن طريق منهج التفكير المقاصدى ومقاصد حفظ العقل والحرية والعالمية. وتُختتم الورقة بخاتمة فيها خلاصة للأفكار المطروحة.
مقاصد الشريعة هى المعانى والغايات التى بنيت عليها الشريعة كما استقرأها العلماء الراسخون وقسّموها إلى تقسيمات متنوعة. من هذه التقسيمات ما يراعى مدى ضرورة هذه الغايات والمصالح، وهو تقسيم السلف (فتنقسم المقاصد إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، والضرورات بدورها تنقسم إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال)،[1] ومنها ما يراعى مدى عموم هذه الغايات (فيقسمها إلى عام فى كل أبواب الشريعة، وخاص فى باب ما من أبواب الشريعة، وجزئى يختص بحكم ما)، ومنها ما يراعى نطاق هذه المعانى (فتُقسم إذن إلى كليات أصلية وجزئيات فرعية)، ومنها ما ينظر إلى المقاصد بمعنى النيات (أي نيات المكلف فى تصرفاته أوعقوده، أو نية وقصد الرسول صلى الله عليه وسلم فى تصرفاته الشريفة،[2] مثل قصد التبليغ وقصد القضاء وقصد الإمامة وغير ذلك) – على تقسيمات وتفصيلات تظهر في الأبحاث المقاصدية المعاصرة، وهي كثيرة بفضل الله تعالى.[3]
أما المقاصد الجزئية بمعنى الحكم والأسرار والمعانى التى تترتب عليها الأحكام الجزئية، فلها اعتبار أساسى فى التعليل لهذه الأحكام، سواء نظرنا إليها من ناحية “دلالة الغاية”، أو من ناحية “مناسبة القياس”، أو من ناحية “قاعدة الاستحسان”، أو “المصلحة”، أو “الذريعة”، وغير ذلك من النواحى والأدوات الأصولية، ولكن الاعتبار الأهم – والذى يتعلق بهذا البحث – يتوجّه إلى المقاصد الكلية كأولويات فى التفكير الإسلامى. فالعقل الإسلامى يغرق أحياناً فى الجزئيات على حساب الكليات، وتأسره تفصيلات المسائل والفتاوى فتمنعه من إعطاء الوزن اللازم للكليات الأصلية والاستراتيجيات التى تقدمها مقاصد الشريعة.
وبالتالى، فالمقاصد فى هذا البحث عن الاقتصاد الرقمي أو المعرفي قضية منهجية أساسية تدخل أول ما تدخل فى وضع السياسات وترتيب الأولويات وطريقة التفكير، وليس فقط فى مناسبات أو مصالح أو علل الفتاوى الجزئية، وهذا ينطبق على المقاصد بتقسيماتها المختلفة سواء كانت تتعلق بضرورات حفظ العقل أو المال (وهما الضرورتان الأقرب لدائرة عمل الاقتصاد المعرفي، كما سيأتي)، أو كانت تتعلق بالكليات المقاصدية، كالعدل، والحرية، والعمران.
منذ مائتى سنة أو تزيد تغير الاقتصاد العالمى تغيراً جذرياً بعد أن كان أساسه (الأرض والعمالة)، إلى أن يكون اقتصاداً أساسه (رأس المال والعمالة والطاقة)، وظلت هذه المنظومة قائمة إلى أن بدأ عصر المعلومات والحاسب ثم الإنترنت (شبكة الاتصال العالمية) والاتصالات الرقمية.[4]
وبدأت المعلومات تغزو الاقتصاد العالمى بأن يكون لها قيمة تبادلية (أى تباع وتشترى)، بل وقيمة استعمالية (أى حق الاستعمال والانتفاع بالمعلومة بناء على “ملكية” المعلومة لشخص أو جهة ما). حتى إن بعض الصناعات المعاصرة (أو التجارات بالأحرى) هى تجارة فى المعلومات بنسبة 100%.[5]
والاقتصاد المعرفى يتعلق بالمعرفة، والمعرفة أخصّ من المعلومة، فالمعلومات تصاغ فى معرفة أو فكرة أو تصميم ما، وهذا التصميم بفكرته التى بنى عليها هو الذى يحرك الاقتصاد الآن بما له من دخل بمنتجات حديثة انتجت بناء على هذه الفكرة وما يحمي الأفكار من قوانين تنظم حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وما إلى ذلك.
إذن، فالاقتصاد المعرفى هو “إنتاج وإدارة الأفكار والمعرفة” من جهة، ومن جهة أخرى هو يتعلق بتحقيق “منافع اقتصادية بناء على هذه الأفكار”. وهذا الاقتصاد (الذى يتوجه اليه العالم اليوم) يقوم أول ما يقوم على ما يسمى “بالرأسمال الإنسانى”، أى أن عقل الإنسان وأفكاره (وليس فقط المعلومات المختزنة، بل الأفكار الجامعة لهذه المعلومات) هو القيمة الحقيقية، التى هى أثمن بكثير من يد هذا الإنسان وقوته، فضلاً عن الآلات والموارد الطبيعية الأخرى. وفى البلاد المتقدمة، يشكل العمال والموظفون الذين يستخدمون عقولهم ولا يستخدمون قوتهم البدنية نسبة 70% من مجموع العمالة.[6]
وبالتالى، فإن الشركات الأكبر فى هذا العالم (مثل ميكروسوف وإنتل وفودافون وديزنى وغيرها)، قيمتها فى السوق أعلى بكثير جداً من قيمة رأس مالها وممتلكاتها الفعلية.
تعريف المال عند المذاهب الإسلامية هو ما يميل إليه الطبع ويباح الانتفاع به (إلا الأحناف الذين لم يخرجوا المحرمات كالخمر من التعريف)، وأن يكون له قيمة بين الناس توجب الضمان على من أتلفه (إلا الأحناف كذلك، وقد اشترطوا إمكان الحيازة والإحراز).[7]
وباعتبار هذا التعريف، فالسؤال هو: هل المعلومات (مال) بناء على أن لها قيمة بين الناس ولأنه ينتفع بها؟
ولكننا إذا نظرنا إلى المعلومات في هذا العصر، وبالرغم أن للمعلومات قيمة تبادلية وقيمة استعمالية وينتفع بها، إلا أنها لا تنطبق انطباقاً تاماً على أيٍ من التعريفات السالفة الذكر.
أما الإباحة والتحريم، فهي تتعلق بالظروف المحيطة ولا تتعلق بأصل المعلومة. فالمعلومة عن الجيش في بلد إسلامي – مثلاً – والتي يبيعها مواطن لأعداء أمته تعتبر حراماً نظراً لأن هذا العمل نفسه يعدّ خيانة وتسليماً للمسلمين لأعدائهم، ولكن بيع هذه المعلومة جائز إذا كان بغرض إعلامي مشروع مثلاً أو من أجل مصلحة الأمة، والأمر يتوقف على الظروف. ولكنّ نفس المعلومة لا تكون حراماً أو حلالاً.
وأما مسألة الضمان على (إتلاف المال) فلا ينطبق أيضاً على المعلومات. فالتلف لا يحدث للمعلومات، وإنما قد يحدث للنطاق المادي أو الإلكتروني (الاسطوانات أو الشرائط أو الأوراق) التي يحمل نسخة من هذه المعلومات.
وأما اشتراط (الحيازة) فلا ينطبق كذلك، لأن (الأمور المعنوية) كما يرى الأحناف أيضاً لا تدخل في المال، وضربوا لها الأمثلة مثل العلم والصحة وغيرها.[8]
ولكننا نرى أن (الحيازة) للمعلومة تتم إذا كانت مخزونة في نطاق معين، وهذا النطاق إما أن يكون ورقياً أو على اسطوانات أو شرائط، كما مر، وهو في هذه الحالة ينطبق عليه شروط الحيازة والحرز وغير ذلك، وإما أن يكون إلكترونياً، أي مخزن كوحدات كهرومغناطيسية أو ضوئية على شبكة أو قرص مركزي، وهي الحالة التي لا تحقق فيها (الحيازة) إلا بكلمة السر أو مفتاح أو بصمة إلكترونية تحقق معنى (الامتلاك الحصري)، إن صح التعبير.
وقد تكون المعلومة متاحة للعامة (مثل الاختراعات أو الأفكار المتضمنة في كتب أو على صفحات الإنترنت)، ولكننا نرى كذلك أن وجود براءة للاختراع أو حقوق طبع على الكتاب أو صفحة الإنترنت تجعل هذه المعلومة ملكاً لصاحبها تماماً مثل (الحيازة) في التعريف التقليدي.
وبناءً على ما سبق، فالمعلومات التي هي أساس الاقتصاد المعرفي أو الرقمي هي أموال لها قيمة تبادلية وقيمة استعمالية، وحيازتها تكون عن طريق براءة الاختراع أو ملكية فكرية إذا كانت عامة، وعن طريق مفتاح إلكتروني أو حرز على نطاق التخزين إن كان نطاق في ملكية صاحب المعلومة، والضمان يكون فيها على من أتلف النطاق المادي الذي يحملها إن لم تتوفر نسخ أخرى لهذه المعلومات، أو على من أشاعها إن كانت سرية أو على من خرق الحقوق الملكية الفكرية أو براءة الاختراع إن وجدت.
وللشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه (نظرات في الشريعة الإسلامية) رأي في (حقوق التأليف) قريب مما ذكر، وأنقله هنا للفائدة:[9]
… والراجح: أن المنافع أموال، وهذا على قول الجمهور؛ لأن المنافع تعتبر أموالا لما احتجوا به، وبدلالة الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي ، وفيه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: هل معك من القرآن شيء؟قال: معي سورة كذا وسورة كذا. قال صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد أنكحتها بما معك من القرآن” وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: “باب التزويج على القرآن وبغير صداق” وقال ابن حجر العسقلاني تعليقا على ترجمة البخاري: “أي على تعليم القرآن صداق مالي” ثم قال ابن حجر بهذا الحديث، واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقا، ولو كان تعلم القرآن، وبهذا الحديث النبوي الشريف وبغيره من الأدلة، قال الشافعية والظاهرية والزيدية بمالية المنافع، وكذلك قول الإمام أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه محتجا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن تعليم القرآن أو سورة منه منفعة معينة مباحة ، فجاز جعلها مهرا كتعليمها نحوا أو فقها، كذلك قال القائلون بجعل تعليم القرآن مهرا للزوجة، أن يكون المهر تعليمها صناعة معينة أو يعلمها فقها أو لغة او نحوا أو غير ذلك من العلوم الشرعية أو العلوم المباحة. هذا وقد جرى العرف على اعتبار النتاج الفكري، ومنه: وضع المصنفات والمؤلفات من المنافع ذات القيمة المالية، وبالتالي يكون للمؤلف حق مالي، وحق معنوي على مؤلفه.حق معنوي: بنسبته إليه وانفراده بحق نشره وتوزيعه، وحق مالي: يتمثل بقابلية هذا النتاج الفكري للمعاوضة المادية، والعرف يصلح أن يكون مصدرا من مصادر التشريع ما دام لم يخالف نصًا شرعيًا، ولا مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية، وهو هنا لم يخالف شيئا من نصوص الشريعة الإسلامية ومبادئها …
ولا بد – بالتالي – من اعتبار مالية المعلومات وقيمتها في الفقه المعاصر بل وفي القانون الوضعي كذلك. أما القيمة في الفقه المعاصر فأثرها في تحريم التعدي على الملكية الفكرية أو براءة الاختراع المتعلقة بالمعلومة، إلا ما كان من مصالح أو ضرورات تبيح ذلك على سبيل الاستثناء، وغير ذلك من أحكام المال، والأمر يحتاج إلى بحث واجتهاد واسعين.
وأما في القانون الوضعي فيترتب على اعتبار المعلومات مالاً آثاراً قانونية من ناحية الإجراءات المعتمدة والعقود النافذة والدعاوى المتعلقة بها، بل ولهذا الاعتبار أثر في تنمية الاقتصاد المعرفي للبلدان التي تأخذ به كما سيأتي.
وتُقيّـم قوة الاقتصاد المعرفى حسب طريقة البنك الدولى بما يسمى بمعدل الاقتصاد المعرفى (واختصارها: KEI)، وهي الطريقة التي تعتمدها أغلب الدول الإسلامية، عن طريق معايير لقياس أربعة معدلات تحت كل منها تقع ثلاث مقاييس، كالتالي:[10]
(1) معدل الابتكار:
ويقاس كالتالي:
أولاً: مقياس حصيلة مصاريف التسجيل لحقوق الملكية الفكرية والرخص المتعلقة بها في بلد معين (تحسب كرقم وأيضاً مقسومة على عدد السكان).
ثانياً: عدد براءات الاختراع التي أجازها المكتب الأمريكي (تحديداً) للاختراعات والعلامات المسجلة (وهي أيضاً تحسب كرقم ومقسومة على عدد سكان البلد).
ثالثاً: عدد المقالات في المجلات العلمية في المجالات الآتية (فقط): الفيزياء، والأحياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب المعملي، وأبحاث الطب، والهندسة والتكنولوجيا، وعلوم الأرض والفضاء.
(2) معدل التدريب والتعليم:
أما معدل التدريب والتعليم فيقاس رقمياً كالتالي:
أولاً: نسبة غير الأميين لمن هم في الخامسة عشرة على الأقل حسب إحصاءات اليونسكو.
ثانياً: عدد الطلبة في الدراسة الثانوية حسب إحصاءات اليونسكو.
ثالثاً: عدد الطلبة في الدراسة ما بعد الثانوية حسب إحصاءات اليونسكو.
(3) معدل تشجيع المؤسسات والشركات:
وهذا يقاس عن طريق الآتي:
أولاً: مقياس مؤسسة التراث (هيريتاج فاونداشن) لمعدل الحرية الاقتصادية في البلد.
ثانياً: مقياس البنك الدولي لمدى (ترحيب) التشريعات المتعلقة بالسوق بالاستثمار الأجنبي.
ثالثاً: مقياس البنك الدولي لـ (سيادة القانون) في كل بلد.
(4) معدل البنية التحتية التكنولوجية:
وهذا يقاس عن طريق الأرقام الآتية:
أولاً: عدد التلفونات لكل ألف شخص من السكان.
ثانياً: عدد أجهزة الحاسب لكل ألف شخص.
ثالثاً: عدد مستخدمي الانترنت لكل ألف شخص.
والأسئلة التي نطرحها الآن هى: ما هو الموقف الإسلامى من هذه المعايير؟ وكيف يمكن لمقاصد الشريعة الإسلامية أن تلعب دوراً فى قبول أو رفض مكونات ونتائج هذا الاقتصاد؟ بل كيف يمكن أن تلعب دوراً فى السياسات التنموية الإسلامية؟ هل نقبل معايير البنك الدولى كما هي أم نغيرها؟ ولماذا؟ وهل نقبل هذا التضخم فى قيمة الشركات العالمية فى المجتمعات الإسلامية، رغم ما تعانى منه هذه المجتمعات من أزمة فى ما يدخل فى “الضرورات” فى علم المقاصد؟
للاقتصاد المعرفى سلبيات كلها تتعلق بممارسات اقتصادية غير عادلة واستغلال الأغنياء للفقراء يمكن لمنظومة حقوق الإنسان المتمثلة فى مقاصد الشريعة أن تتلافاها، وإن فشلت منظومة حقوق الإنسان المعروفة اليوم فى ذلك. ذلك أن الشريعة قد قصدت إلى تحقيق العدل والمساواة بين البشر كأصل أصيل فيها. قال تعالى: “إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”،[11] وحديث النبى صلى الله عليه وسلم: ” ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.[12] بل إن الله عز وجل قد أرسل الرسل وأنزل الكتب لإقامة العدل. قال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”.[13] ومعانى العدل والمساواة هذه يمكنها – على وجه التحديد – أن تسهم فى تلافى العيوب فى حركة الاقتصاد المعرفى اليوم، وذلك كالتالى:
الخلل فى تحديد الاستراتيجيات والسياسات حسب الأولويات الصحيحة من مظاهر الاقتصاد العالمى المعاصر، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد المعرفى. ماذا تفيد ثورة المعلومات حين تدخل شركات الاتصالات الجوالة – مثلاً – مجتمعات أفريقية أو آسيوية معينة الناس فيها معدومون لا يجدون ما يأكلون وتفتك بعقولهم ونفوسهم المخدرات والحروب والتغيرات المناخية الكارثية؟ وماذا تنفع المعلومات حين تعمل حكومات جاهدة على إدخال الإنترنت العالية السرعة عن طريق الأقمار الصناعية إلى قرى نائية، والناس فيها ليس عندهم كهرباء وأغلبهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون أصلاً؟!
التفكير المقاصدى – فى شكليه القديم والمعاصر – هو تفكير بُنى على فهم إسلامى أصيل للأولويات. فالضرورات تُقدم على الحاجيات، التى بدورها تجبّ التحسينات. والضرورات تتفاوت، فحفظ الدين مقدم على حفظ العقل، وحفظ العقل مقدم على حفظ المال، وحفظ النفس مقدم أيضاً على حفظ المال، وهكذا. والفروض أولى من السنن، وفروض العين أولى من فروض الكفاية، وحقوق المكلفين التى تقوم بها حياتهم أولى – فى ميزان الشرع – من حق الله المجرد الذى هو عبادة محضة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمصلحة الكبيرة أولى من المصلحة الصغيرة، وتُغتفر المفسدة الصغيرة من أجل دفع مفسدة كبيرة، والكيف أولى من الكم، وهكذا. وهذه الترتيبات للأولويات أساسها الشرعي نصوص الكتاب والسنة، وأساسها الفلسفى تساوى الناس جميعاً في فطرتهم، وأساسها القيمي العدل وهو مبدأ شرعي أصيل، كما مر.
وبناء على هذه الأولويات، فإن بعض المعايير العالمية لقياس التقدم نحو الاقتصاد المعرفى – مثل عدد المواطنين الذين يمتلكون حاسبات آلية أو خطوط تليفون جوالة – لابد أن يؤخّر فى سلم الاهتمام والتخطيط الاستراتيجى الإسلامي، على أن يُركّز أولاً على الإصلاح التعليمى والأخلاقى الذى يحفظ على الناس – أول ما يحفظ – نفوسهم وعقولهم ونسلهم، بصرف النظر عن مدى تأثير هذا التركيز على تقييم البنك الدولى وأرقامه.
ثم إنه لابد من التركيز على المعرفة و”الكيف” فى التفكير قبل التركيز على “كم” المعلومات المجردة الذى تُحشَى به عقول التلاميذ، فالكيف أولى من الكم فى ميزان الإسلام. ولابد من التركيز على الصناعات الصغيرة والأشكال البسيطة الرخيصة لتطبيق التقنيات، قبل التركيز على الشركات العملاقة التى تنتج سلع استهلاكية تحسينية غير ضرورية ولا حاجية، وتطبيقات معقدة وغالية الثمن للتقنيات الحديثة. وهكذا يمكن للتفكير المقاصدى أن يرتب أولويات السياسات التنموية بشكل أكثر إنسانية وعدلاً.
والدول الإسلامية حين تبني السياسات التنموية والمعلوماتية فيها على أساس معايير البنك الدولي الخاصة بمعدل الاقتصاد المعرفي، دون تعديلها بناء على نظرة إسلامية أصيلة – ينتهي بها الحال إلى إخلال بالأولويات الإسلامية وإعطاء الوقت والمال والجهد للأقل أهمية – شرعاً – من الأمور.
وفيما يلي مقترحات محددة مختصرة لتعديل معدل الاقتصاد المعرفي للبنك الدولي بما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية:
لا ينبغي أن يرتبط هذا المعدل بالكم الذي يسجل في مكتب الاختراعات أو مكتب حقوق الملكية (سواء في الولايات المتحدة أو غيرها)، وإنما ينبغي أن يرتبط بمقياس لأهمية هذه المخترعات وجودتها وليس فقط بالكمية، فالكيف أولى من الكم في ميزان الإسلام.
والكيف هذا لابد أن يقاس بمدى تحقيق هذه المخترعات الجديدة لمصالح الأمة العليا وأولوياتها من فروض عين وفروض كفاية، وأن تعطى الأفكار التي تتعلق بالضرورات والأساسيات وزناً أكبر من الأفكار التي تتعلق بالحاجيات والإستهلاكيات، ثم تأتي أخيراً النوافل والتحسينيات.
ولا ينبغي لزيادة عدد السكان في بلدٍ ما أن تؤثر سلباً على معدل الابتكار فيها، وإنما يقاس معدل الابتكار حسب الجودة دون اعتبار لعدد السكان.
كما لا ينبغي قصر المقالات العلمية على مجالات معينة (تخدم بالأساس الشركات العالمية للتقنيات والتسليح والخدمات نحو المزيد من الثروات!)، وإنما المعرفة والأفكار والأبحاث والمخترعات في كل المجالات: علمية وفنية وسياسية واجتماعية وفلسفية وقانونية ورياضية وغيرها، وهي كلّها مما ينمي الاقتصاد المعرفي وقدرات (الابتكار) عند الناس.
وينبغي أن تعتبر الإجراءات والمعايير التي تحفظ العقل كما اعتبرت المعايير والإجراءات التي تنمي العقل وتدربه. فنسبة الأمية وعدد الطلبة في مراحل التعليم المختلفة معايير لقياس تنمية العقل، ولكن ينبغي أن يضاف إليها المعايير الإسلامية التي تحفظ العقل ووعي الإنسان من الخلل والفساد، كمعايير سلامة الناس من المسكرات والمخدرات، ومعايير أخرى ترتفع مع انخفاض هجرة العقول وقلة تغيب الطلبة عن الحضور في المدارس أو الجامعات، وقس على ذلك.
وهذا المعدل لا ينبغي له أن يقاس حسب إحصائيات المؤسسات المتعلقة (بالحرية الاقتصادية)، لأن هذه المؤسسات – مع كل الاحترام لمهنيتها ودقتها – إنما تقيس هذه المعايير بناءً على مصالح المستثمر في الشركات المعولمة، لا المواطن العادي، بل ولا تفصل بين الأنواع المختلفة من الاستثمار في الضرورات من بنية تحتية وتنمية بشرية وما يساعد في ذلك، والحاجيات من استهلاكيات يمكن أن يستغني عنها الناس أو عن بعضها، وكماليات هي أقرب ما تكون إلى الرفاهيات التي يمكن للناس الاستغناء عنها دون ضرر بالمعرفة أو الاقتصاد الرقمي أو غير الرقمي.
وعلى ذلك، فلا ينبغي أن تقاس (البنية التحتية) عن طريق أعداد أجهزة التلفون والحاسب الآلي والإنترنت فقط، وإنما ينبغي أن يدخل في ذلك ضرورات أولية، مثل الكهرباء والطرق والمواصلات.
كما ينبغي أن يعدّل مقياس استخدام الإنترنت من كونه يقتصر على أعداد المستخدمين وسرعة الشبكة إلى كيفية استغلال هذه الشبكة وأنواع التطبيقات والصفحات المنشأة والمستدعاة من خلال الشبكة، وهذه الإحصائيات يمكن حسابها مباشرة عن طريق الحاسبات المركزية في نقاط الاتصال الرئيسية في تلك الدول.
والخلاصة أنه ينبغي تقسيم المعايير العالمية لقياس التقدم نحو الاقتصاد المعرفى إلى ما يتعلق بالضرورات والحاجيات والكماليات، وإعطاء كل مستوى وزناً أعلى من المستوى الأقل أهمية في حساب المعدلات. كما ينبغي تقديم الكيف على الكم في هذه المعايير وربطه بمصالح الأمة العليا وضروراتها الملحة.
هناك نوعان رئيسيان من الملكيات الفكرية يتعلقان بالاقتصاد المعرفى ألا وهما براءة الاختراع وحقوق الطبع. فأما براءة الاختراع فهى تسجيل ملكية فكرة معينة محلياً أو دولياً – لا يحق لأحد أن يستخدم هذه الفكرة إلا باتفاق مع مالكها. وأما حقوق الطبع فهى ملكية على المادة العلمية نفسها دون الأفكار التى ترد فيها على التفصيل. والثروات الضخمة التى حققتها الشركات العملاقة فى مجال المعلومات هى بسبب حقوق الملكية هذه بالأساس.[14]
ولكنّ هذه الحقوق على المعلومات والأفكار تعارضت في ذهن بعض الناس مع تعريف المال فى الفقه بدعوى أنه (لا يشمل الأمور المعنوية)، كما مر، مما جعل بعض المفتيين يفتى بإهدارها وإباحة التعدى على الملكية الفكرية بكل صورها، خاصة فى مجال تقنيات المعلومات والبرامج. وهذا خطأ تصدى له أهل العلم والمجامع الفقهية.[15]
( فمجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12رجب1406هـ إلى يوم السبت 19رجب1406هـ، قد نظر في موضوع حقوق التأليف لمؤلفي الكتب والبحوث والرسائل العلمية:
هل هي حقوق ثابتة مملوكة لأصحابها؟
وهل يجوز شرعًا الاعتياض عنها والتعاقد مع الناشرين عليها؟
وهل يجوز لأحد غير المؤلف أن ينشر كتبه وبحوثه ويبيعها دون إذنه على أنها مباحة لكل أحد، أو لا يجوز؟ ….
وانتهى المجلس بعد المناقشة المستفيضة إلى القرار التالي:
1-أن الكتب والبحوث قبل ابتكار طرق النشر بالمطابع التي تخرج منه الآلاف المؤلفة من النسخ، حين لم يكن في الماضي وسيلة لنشر الكتاب إلا الاستنساخ باليد، وقد يقضي الناسخ سنوات في استنساخ كتاب كبير ليخرج منه نسخة واحدة كان الناسخ إذ ذاك يخدم العالم المؤلف حينما ينسخ بقلمه نسخة أو عدة نسخ لولاها لبقي الكتاب على نسخة المؤلف الأصلية معرضًا للضياع الأبدي إذا تلفت النسخة الأصلية فلم يكن نسخ الكتاب عدوانًا على المؤلف واستثمارًا من الناسخ لجهود غيره وعلمه، بل بالعكس كان خدمة له وشهرة لعلمه وجهوده.
2-أما بعد ظهور المطابع، فقد أصبح الأمر معكوسًا تمامًا، فقد يقضي المؤلف معظم عمره في تأليف كتاب نافع، وينشره ليبيعه فيأخذ شخص آخر نسخة منه فينشرها بالوسائل الحديثة طبعًا أو تصويرًا، ويبيعه مزاحمًا مؤلفه ومنافسًا له، أو يوزعه مجانًا ليكسب بتوزيعه شهرة فيضيع تعب المؤلف وجهوده، ومثل ذلك يقال في المخترع. وهذا مما يثبط همم ذوي العلم والذكاء في التأليف والاختراع حيث يرون أن جهودهم سينهبها سواهم متى ظهرت ونزلت الميدان، ويتاجر بها منافسًا لهم من لم يبذل شيئًا مما بذلوه هم في التأليف أو الابتكار. فقد تغير الوضع بتغير الزمن وظهور المستجدات فيه، مما له التأثير الأساسي بين ما كان وما صار، مما يوجب نظرًا جديدًا يحفظ لكل ذي جهد جهده وحقه. فيجب أن يعتبر للمؤلف والمخترع حق فيما ألف أو ابتكر، وهذا الحق هو ملك له شرعًا لا يجوز لأحد أن يسطو عليه دون إذنه، وذلك بشرط أن يكون الكتاب أو البحث ليس فيه دعوة إلى منكر شرعًا، أو بدعة أو أي ضلالة تنافي شريعة الإسلام، وإلا فإنه حينئذ يجب إتلافه ولا يجوز نشره.
وكذلك ليس للناشر الذي يتفق معه المؤلف ولا لغيره تعديل شيء في مضمون الكتاب أو تغيير شيء دون موافقة المؤلف، وهذا الحق يورث عن صاحبه ويتقيد بما تقيده به المعاهدات الدولية والنظم والأعراف التي لا تخالف الشريعة، والتي تنظم هذا الحق وتحدده بعد وفاة صاحبه تنظيمًا وجمعًا بين حقه الخاص والحق العام، لأن كل مؤلف أو مخترع يستعين بأفكار ونتاج من سبقوه ولو في المعلومات العامة، والوسائل القائمة قبله.
أما المؤلف أو المخترع الذي يكون مستأجرًا من إحدى دور النشر ليؤلف لها كتابًا، أو من إحدى المؤسسات ليخترع لها شيئًا لغاية ما، فإن ما ينتجه يكون من حق الجهة المستأجرة له، ويتبع في حقه الشروط المتفق عليها بينهما مما تقبله قواعد التعاقد. )
و مجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد في دولة الكويت في دورته الخامسة في الفترة من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409/10 (ديسمبر 1988م) قد أفتى بالتالي:
( أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا، فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقًا ماليًا.
ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. )
والحق أن القضية تحتاج إلى توزان بين مقصدين: الأول هو حفظ المال، وقد صارت هذه الأفكار أو المخترعات البرمجية أموالاً ومنافع فى حد ذاتها، كما أفاض وأجاد العلماء، والمقصد الثانى هو تحقيق العدل بمنع الاستغلال والاحتكار، وقد أصبحت بعض هذه الأفكار والتقنيات والأجهزة المبنية على أساسها بمثابة الضرورات، أو الحاجات التي عمت حتى نزلت منزلة الضرورات.
ومنهج التوازن بين هذين المقصدين يقتضى اتخاذ تدابير لئلا تؤدّى هذه (الملكية الفكرية) لما هو ضروري لحياة الناس إلى الإضرار بالفقراء – أفراداً أو جماعات أو دولاً – خاصة مع الانتشار الهائل للمنتجات التى بُنيت على هذه الأفكار كأجهزة الحاسب والاتصال وغيرها، والتي أضحت تدخل فى نطاق الضرورات التى لا تقوم الحياة المدنية إلا بها.
والفجوة أو الهوة الرقمية معناها فارق الإمكانات بين الأغنياء والفقراء الذى يظهر فى امتلاك الأغنياء للتقنيات الحاسوبية فى الوقت الذى يحرم منها الفقراء لا لسبب إلا لفقرهم وضعف اقتصادياتهم، وهى هوة موجودة على مستوى المجتمعات داخلياً (مثلاً الهوة الرقمية بين البيض والسود فى المجتمع الأمريكى)، وعلى مستوى الدول والقارات (مثلاً الهوة بين الغرب بشكل عام، وأفريقيا وأمريكا الجنوبية بشكل عام).
واجتهاد عمر رضي الله عنه بالمقاصد فى فهم آية (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ)[16] ينطبق على هذا الواقع. فالتقريب بين الطبقات، وهو “المقصد” الذى نادى به غير واحد من الباحثين المعاصرين،[17] ينبغى أن يتم فى المال بمعنى الممتلكات المادية، والمال بمعنى المعلومات والمعارف على حد سواء، خاصة وقد أصبحت لهذه المعلومات قيم تبادلية واستعمالية، كما مّر. وكلا النوعين من التقريب يساهم فى تضييق الفجوة الرقمية المذكورة.
رابعاً – كيف تسهم مقاصد الشريعة فى تنمية الاقتصاد المعرفى ؟