من مقاصد وأهداف صوم رمضان تربية الصائم على الإخلاص لله، إذ إنه في صيامه عن الطعام والشراب ولو كان وحده، يدرك أنه لا يراه إلا خالقه، فيتربى على توحيده لا شريك له.
إلا أن الشرك بالله تعالى قد اتخذ شكلاً جديداً في هذا العصر، بل وتجلى في هذا الشهر الفضيل رمضان لهذا العام، مما يستدعي الدفاع عن حمى التوحيد ومبادئ العقيدة.
هذا الشرك الجديد هو في عبادة “الدولة الوطنية”، بل وتقديسها أحياناً من دون الله، وبالتالي إهدار كل القيم العقدية والأخلاقية الإسلامية والعربية بل والإنسانية في سبيل تلك “الدولة”، وحدها لا شريك لها!
من مظاهر هذه العبادة للصنم الجديد أن تتخلى جل الأمة الإسلامية وخاصة الأمة العربية عن غزة الجريحة، والتي يعتدي عليها الغول الصهيوني ويضرب المدنيين فيها بالأسلحة المحرمة، وعن القدس الشريف، والذي تتسارع فيه المؤامرة ضد المقدسيين ومقدسات الإسلام هناك.
بل وتتعدى الخيانة من مجرد الشجب السلبي أو مجرد السكوت إلى التعاون الفعلي مع أعداء الأمة من أناس يزعمون أنهم “خير أجناد الأرض”، وتحدث هذه الخيانة للإنسانية والعروبة والدين باسم “المصلحة الوطنية” و”الأمن القومي” ومصلحة “الدولة الوطنية”، لا شريك لها.
وما دام الأمر يتعلق بهذا الصنم الكبير، فعلى جميع الأصوات أن تسكت وجميع الأقلام أن تنكسر، ولا تكلم نفس إلا بإذن “الدولة”، لا شريك لها.
ومن المظاهر البشعة لهذه الوثنية الجديدة في عبادة “الدولة”، المأساة الإنسانية التي تحدث في سوريا، والتي لا يراها العالم أو يتعامل معها طوال هذه السنوات كجرائم بشعة، وفقط، لأنها تُرتكب من قبل “الدولة”، بل ويبرر لهذه الجرائم المسوغون الفاسدون بأن “الدولة” من حقها أن تدافع عن “سيادتها” و”حدودها”، وأنها من حقها أن تقتل وتشرد الشعب نفسه من أجل بقاء سيادتها على أراضيها، ولو هلك الشعب كله.
بل ويبرر “العالم الحر” سياساته بدهاء شديد عن طريق وصف ما يحدث بالأزمة الداخلية والحرب الأهلية، وباسم سيادة “الدولة” نمضي نحن في مصائدهم الواحدة تلو الأخرى من أجل مخطط الشرق الأوسط الجديد.
كما نرى الغبن الشديد من “الدولة” العراقية ضد مكون كبير فيها وهم السنة العرب، فنرى بداية تقسيماً عجيباً غريباً لمكونات تلك “الدولة” على أنها شيعة وسنة وأكراد، وكأن الأكراد ليسوا سنة إذا نظرنا إلى المذاهب لا الأعراق، وكأن الشيعة والسنة هناك لا يشتركون في العروبة إذا نظرنا إلى الأعراق لا المذاهب، وكأن هذا التقسيم لمكونات “الدولة” “طبيعي”.
ثم يتبع هذا التقسيم المغرض بسياسات داخلية متحيزة ومجرمة أحياناً، ثم لا يحق للآخرين من خارج “حدود الدولة” التدخل فيها، حتى وصلنا إلى هذا الانهيار السريع اللافت لوحدة تلك الدولة أمام جماعة فوضوية مشبوهة الأهداف تجند الشباب الساذج المتحمس من أنحاء العالم وتدعي أنها أقامت “الخلافة”، وما أدراك ما الخلافة.
لتحدث جرائم هتك العرض بل والاغتصاب للرجال والنساء في “أم الدنيا”، حتى أصبحت تلك الجرائم المشينة قاسماً مشتركاً في تقارير هيئات حقوق الإنسان في كل مكان.
ولكن من العجب العجاب أن نجد من يبرر لها نظراً لأن “هيبة الدولة” -لا شريك لها- على المحك، وهي القيمة التي ينبغي أن نحافظ عليها فوق كل قيمة.
وباسم “هيبة الدولة” لا شريك لها، فليغتصب من يغتصب وليقتل من يقتل وليعذب البشر من يعذب، ويموت الناس وتعيش “الدولة”. ثم تنتهك سيادة القانون بل وقيمة القانون نفسه في مصر كذلك بأحكام جنائية بإعدام المئات تلو المئات من المعارضين للحكم العسكري من قضائها الوطني “الشامخ” وبتهم جنائية عجيبة ومحاكمات لا تستقيم مع أبسط مبادئ القانون، مع التعسف في أحكام الحبس والغرامة.
كل ذلك يجري بشكل فاضح وغير مسبوق في تاريخ “الدولة الحديثة” مما أضحك علينا العالم، ثم يقال إن هذه الأحكام هي للحفاظ على “الدولة” من الذين خانوها، وخير دليل عندهم على تلك الخيانة هو التعاون مع المقاومة الفلسطينية، والتي هي “جهة أجنبية” على حساب مصالح “الدولة”.
فيصبح التعاون مع الصهاينة باسم صنم “الدولة” مشروعا، فيما التعاون مع المقاومة الفلسطينية باسم مصلحة “الأمة” غير مشروع.
ثم يزيد الطين بله أن يتورط المفتي في الدولة المصرية -مفتي بعد مفتي- في دماء الأبرياء والدعاة والمصلحين، تارة على أنهم “خوارج”، بمعنى أنهم خرجوا على “الدولة” -لا شريك لها- فيعتبر هذا الخروج “ردة” تستأهل القتل دون محاكمة ولا حتى “استتابة”، وتارة في إقرار أحكام بالإعدام تضع في حيثياتها “الشرعية” اعتبارات تتعلق بمعارضة “سلطة الدولة”، فيتورط العلماء في هذا اللون الجديد من الشرك باسم الإسلام نفسه هذه المرة.
الحق أن الإفتاء في الأمة الإسلامية لا يصح أصلاً أن يكون تابعاً للسلطة التنفيذية في هذه “الدولة” أو تلك، فيتلقى العالم المفتي من الحاكم الميزانية ومعها الأوامر والتوجيهات.
الإفتاء في أمة الإسلام -على مدار تاريخها الطويل- منصب حر وعفوي يحصل عليه العلماء الكبار الذين تتلقاهم الأمة بالقبول في كل عصر، لا الذين يعينهم الحاكم في “الدولة”.
وإذا قامت مؤسسة للإفتاء الجماعي، فلا يصح إلا أن تكون مستقلة مالياً وإدارياً وسياسياً، وتابعة لهيئة علمية لها أوقاف مستقلة.
“منصب” الإفتاء في الدولة الوطنية بشكله الحال بدعة سياسية عثمانية، ولكنها في واقعنا المعاصر تثبت يوماً بعد يوم أنها بدعة سيئة باطلة وليست بدعة حسنة مقبولة.
ثم تتعامل الدول “الأخرى” مع ما يحدث في فلسطين وسوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وغيرها من منظور “المصلحة الوطنية”، وبالتالي المواقف السياسية هنا -إلا من رحم الله- لا تعرف مبدأ ولا قيمة إلا المنفعة السياسية أو الاقتصادية لهذه الدولة الوطنية أو تلك، ولو على حساب الدين، ولو على حساب الحق، بل ولو على حساب الجميع في مآل الأمور.
وتحدث جرائم فظيعة ومذابح دامية في بلاد شتى إسلامية وغير إسلامية من ميانمار وبنغلادش والفلبين إلى السودان والصومال ونيجيريا، فضلاً عما يحدث في فلسطين وسوريا والعراق ومصر، فلا نجد من يتصدى لها ولا حتى يستنكرها من بني الإسلام نظراً لأن هذه الجرائم تحدث في “دول” أخرى ذات “سيادة على ما بداخل حدودها الوطنية”.
وما داموا يعبدون أصنام دولهم فليس عليهم جناح فيما يفعلونه قرباناً لتلك الأصنام. ومن نافلة القول أن نذكر هنا أن محبة الوطن قيمة إسلامية وإنسانية لا يرفضها أو ينكرها مسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن مكة: “لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”، إلى آخره.
ولكن الكلام هنا ليس عن حب الوطن ولا الولاء له، وهو شيء طبيعي ومشروع. الكلام هو عن عبادة صنم جديد اسمه “الدولة الوطنية”، والتي دائماً ما يخلط الخبثاء بينها وبين مفهوم الوطن نفسه لتحقيق أغراضهم السياسية الانتهازية ومصالحهم المادية الآثمة.
ومن نافلة القول كذلك التذكير بأن من ابتدع مفهوم “الدولة الوطنية”، وهم الغربيون، ليس عندهم هذه الإشكاليات المؤسفة في واقعهم المعاصر، وذلك نظراً لأنهم يضعون تحقيق هذا المفهوم في الواقع موضعه الصحيح، ذلك أن الدولة مجرد هيكل بيروقراطي هدفه تحقيق المصلحة العامة وليس غاية في حد ذاته.
بل إن القوم رغم ابتداعهم لهذا المفهوم -وتصديره لنا كذلك- إلا أنهم تجاوزوه هو نفسه لتحقيق الصالح العام على مستوى اتحادات قارية وتحالفات عسكرية وسياسية واقتصادية، فما أبعدنا عن مثالها.
فهل آن الأوان، وخاصة أننا في شهر الصيام والتوحيد، أن نوحد الله وحده ونكف عن عبادة هذا الصنم المسمى “الدولة الوطنية”؟ أما آن الأوان أن نضع “الدولة الوطنية” في موضعها الصحيح، وأن نتعامل معها على أنها مجرد وسيلة لتنظيم شؤون المجتمعات الحديثة وتحقيق الصالح العام، دون أن تكون قيمتها أعلى من قيمة الدين ولا الحياة الإنسانية ولا الكرامة التي منحها الله لبني آدم؟
ولا يعني هذا بطبيعة الحال الدعوة إلى منهج الفوضوية، إسلامية داعشية كانت أم ليبرالية أرناركية، لأن “الدولة الوطنية” اليوم هي جزء لا يتجزأ من الواقع المعيش ومن مصالح الناس. وإنما يعني أن تكون الدولة فعلاً وسيلة خادمة للإنسان والإنسانية، لا أن تعلو قيمة “الدولة” على قيمة الإنسان وحياته وكرامته.
الدولة نفسها وسيلة للحفاظ على الإنسان، لا لإهدار قيمته باسم الحفاظ على ذلك الكيان الأسطوري المتصور في أوهام الناس.
وأخيراً في هذا المقام، ينبغي أن نتذكر -كعرب- من وضع تلك الحدود وصنع تلك الأصنام منذ البداية؟
وإذا كان مشركو العرب قديماً قد عبدوا أصناماً من نحت أيديهم، فبعض العرب اليوم قد عبد أصناماً نحتها ساكيس الإنجليزي وبيكو الفرنسي، ويعيد نحتها لنا من جديد أباطرة اليوم في الغرب والشرق!