وصلنا إلى أن أس الفساد في عالمنا العربي والإسلامي هو الاستبداد، وإلى أن منظومة الاستبداد السياسي الفرعوني تتكامل وتتضافر مع منظومتي الاستبداد الاقتصادي القاروني والاستبداد الديني الهاماني،
وأنه لابد في مرحلة تالية من الثورة من التفكيك ثم إعادة الصياغة لمفهوم الدولة الوطنية نفسه. ولكن مفهوم الدولة الوطنية مفهوم ماكر لأنه يخلط بين مفهومين مختلفين، ألا وهما مفهوم الوطن ومفهوم الدولة.
وزاد الطين بلّه أن هذا الجيل وجيلين أو ثلاثة قبله من الإنسان العربي والمسلم قد تدرب منذ نعومة أظافره على أن يعرّف نفسه أولاً وقبل أي تعريف آخر -وفي كل مجالات الحياة المهنية والشخصية وغيرها- حسب النظام السياسي الذي يعيش تحته، أي على أنه مصري أو سوداني أو سعودي أو كويتي أو إماراتي أو قطري أو أردني أو لبناني أو باكستاني أو بنغلاديشي أو ماليزي أو إندونيسي أو ليبي أو تركي أو فلسطيني، إلى آخره. ويرى تعريف نفسه أساساً بذلك الكيان السياسي تعريفاً (طبيعياً) أيضاً، رغم أن كل هذه الكيانات السياسية الوطنية بحدودها الحالية هي وليدة العقود القريبة الماضية ليس إلا! فيشعر المصري مثلاً أن السودانيين وأهل غزة “أجانب”، رغم أن ما تسمى اليوم بجمهورية السودان وكذلك قطاع غزة كانوا جزءاً من ما كان “مصر” على مدار التاريخ. وهكذا يشعر الأردني والفلسطيني واللبناني، والسعودي والقطري والإماراتي، والباكستاني والبنغلاديشي، وهلمّ جراً، والانقسامات لا تنتهي.
أما الوطن فهو مكان ينتمي إليه الإنسان بحكم أنه عاش فيه فترة حية من حياته طالت أو قصرت أو ينتمي إليه أبواه أو أحدهما وأثرا فيه تأثيراً عميقاً، فتشكل على الانتماء إليه وجدانه ومشاعره وجسمه وكون فيه علاقات اجتماعية ومضامين لغوية وعادات ومذاقات وروائح ومناظر كونت جزءاً مألوفاً من نفسيته. وبالتالي فالمحب للوطن يشتاق إليه ويحن. الرسول صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة إلى المدينة اشتاق إلى مكة وحن إلى وطنه حنيناً شديداً.
روى البخاري عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله، وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي اذخر وجليل
وهل أرِدن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة». وفي رواية يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا.
أما الدولة فهي من دال يدول دولة من التداول، كما في كتاب الله تعالى في قوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)، ودُولة بالضم ودَولة بالفتح لغتان، ولكن يقال إن الدُولة في المال والدَولة في الحرب، ويقال إن الدُولة هي اسم الشيء الذي يتداول بعينه، والدَولة هي الفعل. وقوله جل وعلا (دُولَة) أي كيلا يتداوله الأغنياء فقط بينهم، ولكن الدَولة لفظة مختصة بالأمور الدنيوية لا سيما الغلبة. فأصل مصطلح الدولة في لغة العرب يدل ببساطة على السلطة أو “الغلَبة” كما سمّوها بالتعبير القديم ودون هياكل معينة لهذه السلطة.
إلا أننا لاحظنا أنه حتى معنى الكلمة اللغوي قد تغير في العصر الحديث ليدخل فيه المعنى النظري السياسي الغربي، ففي المعجم الوسيط مثلاً كما في غيره من المعاجم المعاصرة أنها: «جمع كبير من الأفراد يَقْطن بصفة دائمة إقليمًا معيَّنًا ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي»، وهذا من تأثر اللغة نفسها بالمفهوم الذي نشأ في الثقافة الغربية وتطور في الواقع الغربي، أي الأرض والشعب والسيادة. وبما أن مفهوم الدولة الحديثة مفهوماً غربياً صرفاً فلنتباحث فيه قليلاً من مصادره الفكرية واللغوية. أما في لغات الغرب، فكلمة “الدولة” عندهم اليوم (Stateبالإنجليزية، Stato بالإيطالية، Estado بالإسبانية، Etat بالفرنسية، der Staat بالألمانية) فأصلها الكلمة اللاتينية Status بمعنى الحالة، ولكن الكلمة التي استخدمها أرسطو ليست هذه وإنما كلمة سيفيتس (Civitas) وهي بمعنى الحاضرة أو المدينة، وليس الدولة بمعناها المعروف الآن.
وعلى الرغم من أن كلمة (ستاتوس) (Status) كانت تُستخدم في العصور الوسطى للإشارة إلى الوضع القانوني للأشخاص، إلا أنها فقدت هذا المعنى بمرور الوقت، وارتبطت بالنظام القانوني للمجتمع بأسره وأدوات تطبيقه. ثم بعد ظهور ميكافيللي في أوائل القرن السادس عشر وكتابه “الأمير” ظهر استخدام كلمة الدولة في معنى آخر قريب من معناها الحديث، والذي هو معنى ميكيافيللي بامتياز. والخلفية الميكيافيلية لمفهوم الدولة المعاصرة مهم في فهمها ونقدها. فقد سعى ميكافيلي إلى استكشاف آلية لتحقيق التوازن بين سلطة الدولة وإرادة المواطنين من خلال نصين أساسيين له، ألا وهما كتاب “الأمير”، وكتاب “الخطاب”. وقد رأي في كتاب “الخطاب” أنه بعد موت الأجيال التي ابتكرت الديمقراطيات القديمة برز وضع جديد: “لا احترام فيه للفرد ولا المسؤول، وكان كل إنسان يفعل ما يريد ويرتكب مختلف الانتهاكات دون رادع. وعادت الإمارة من جديد بناءً على اقتراح من بعض المخلصين بسبب الحاجة الماسة إلى التخلص من الفوضى بطريقة أو بأخرى من خلال مجموعة من التحولات”، على حد قوله. وانتهى ميكافيلي إلى أن المخرج من تلك “الفوضى” هو تنظيم الدولة حسب القوميات. وبالتالي فالدولة الميكافيلية هذه هي وسيلة للحفاظ على النظام العام وليست هدفاً ولا تستدعي انتماء في نفسها.
ومن الإضافات المهمة في هذا السياق إضافة هيغل، والذي رأى في كتابه “فلسفة الحق” أن آلية الدولة يمكنها أن تحل الصراعات الحادة بين الأفراد من خلال تقديم إطار عمل عقلاني للتفاعل في المجتمع المدني من جانب، وتقديم فرصة للمشاركة -عبر شكل محدود من التمثيل- في تشكيل الإرادة السياسية العامة على الجانب الآخر. وبفضل الدولة فقط يمكن للمواطنين تحقيق ما سماه “التواجد العقلاني”. ثم ظهر مفهوم الدولة ككيان له ما سمي “سيادة” (souverainete – sovereignity)، وهذه الخصيصة مضافًا إليها صفة الإقليمية هي السمة الأبرز للدولة الحديثة. ويُقصد بالسيادة أن تكون هناك سلطة جبرية عليا، أي أن تمتلك الدولة تلك القوة في إطار حد إقليمي معروف. وقد جاء في تعريف ماكس فيبر مثلاً أن الدولة هي احتكار الحق القانوني في استخدام قوة الإكراه المادية ضمن منطقة ذات حدود محددة.
ولكن ما يميز الدولة الحديثة هو هذا السلوك الذي تصور به تلك المفاهيم على أنها حقائق مسبقة (أيديولوجية)، وتقوم تلك الأيديولوجية “الأسطورة” على نظرية مجردة للسيادة، يُنظر فيها إلى الدولة كفكرة مجردة بمعزل عن الحاكم والمحكوم. وأساطير الدول العربية والإسلامية الحديثة هي من مخلفات الاستعمار بامتياز. فبعد الحرب العالمية الأولى جلس الوزيران الفرنسي فرانسوا بيكو والبريطاني مارك سايكس ووصلا لاتفاقية سرية عام 1916 بمباركة من الإمبراطورية الروسية وقتها على اقتسام الهلال الخصيب وبلاد الشام بين فرنسا وبريطانيا، ثم كشف عن تلك الاتفاقية الشيوعيون حين حكموا روسيا بعدها بعام، مما أثار الشعوب العربية شيئاً ما، ولكن التقسيم مضى قدماً بمؤتمر سان ريمون عام 1920، ثم بغيره من المعاهدات والمذكرات مثل معاهدة لوزان عام 1923. ورسمت تلك الاتفاقيات ومثيلاتها في ما تلا ذلك من عقود حدوداً ظهرت لأول مرة في التاريخ، وهي الحدود الحالية لكل من الدول الوطنية الحالية: العراق وسوريا ولبنان وتركيا والأردن، ثم فلسطين، والتي قامت “إسرائيل” فوق أجزاء كبيرة منها سنة 1948.
وهناك قصص شبيهة بهذه القصة في فحواها وتلاعبات موازين القوى العالمية فيها إلى أن وصلنا إلى كل التقسيمات والحدود الأخرى تقريباً في عالمنا العربي والإسلامي بشكل عام. إذن مفهوم “الدولة” ليس مفهومًا بسيطًا ولا “طبيعيًا”، وإنما هو مفهوم سياسي ومركب ومتغير عبر العصور والسياقات والثقافات لا يمكن إدراكه فقط عن طريق سمات طبيعية متوهمة كسمات الأرض والشعب والسيادة، لأن هذا التعريف يختزل المفهوم في هذه السمات الثلاثة التي يُدعى أنها تحدد “طبيعة” الدولة وتحولها إلى “نظام” ثابت حتمي؛ وبالتالي تمنع العاقل من إعادة النظر أو التجديد أو النقد لهذه السمات أو النظم الناتجة عنها بالإضافة أو الحذف أو إعادة الصياغة.
وليس المطلوب هنا هو “تفكيك” مفهوم الدولة حتى نمسي في فوضوية أو “أناركية”، ولكن المطلوب هو فتح الباب لإعادة صياغة المفهوم، وهناك فارق بين التفكيك دون تركيب، والتفكيك مع إعادة التركيب لتحقيق الغايات والمعاني الأخلاقية المقصودة أساساً بالمفهوم.
وبالتالي فالوطن شيء والدولة شيء آخر، الوطن ينتمي إليه الإنسان غالباً في مدينة أو قرية وما حولها في دائرة محدودة وكلما اتسعت الدوائر كلما خف هذا الانتماء العاطفي، ولكن الدولة هي نظام سياسي أوسع كثيراً وله حدود وسيادة، وتتحكم فيه السلطة في وسائل العنف من أجل الصالح العام، ويسعى أعضاؤه إلى التواجد العقلاني الذي ذكره هيغل. أما إذا كانت وسائل العنف في خدمة الظلم والاستبداد والمستبدين، وكان الصالح العام تائهاً في أولويات السياسة والسياسات، وغاب “التواجد العقلاني” فتفقد الدولة هدفها ومعناها، ولو لم يفقد الوطن هدفه ومعناه. وهنا لا يصح أن تختلط جنسية الدولة بحب الوطن، ولا يكون التخلي عن جنسية الدولة أو حتى حمل أكثر من جنسية دليل على عدم حب الوطن، بل في تلك الظروف يكون تفكيك دولة الاستبداد هو عين ما ينبغي فعله في سبيل الوطن!