الإشكالية الكبرى التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي هي الاستبداد السياسي. الاستبداد السياسي هو أس الفساد ومصدر البلاء،
وهو السبب الرئيس وراء الحروب والاختلاس واستغلال النفوذ والعنف الأهلي وضياع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان والتخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وغير ذلك من أشكال الطغيان والظلم والفساد في عالمنا. وهذا ليس من باب إلقاء اللوم على الآخرين بل هو من باب التحليل للواقع وفهمه، واللوم هو علينا نحن أمة الإسلام الذين سمحنا لهذا الاستبداد في التغول والتعمق، أو كما يقول المصريون في طرافتهم المعهودة: (قالوا: يا فرعون إيش فرعَنَك؟ قال: ما لقيتش حد يلمِّني)!
والاستبداد هو تفرد فرد أو مجموعة محدودة بالقرار العام وبالتحكم في مصائر العباد دون شرعية حقيقية أو وجه حق ولتحقيق مصالح ذاتية ضيقة على حساب مصالح الناس. وفي عالمنا العربي الاستبداد السياسي يحتكر السلطات الخمس (إن صح التعبير سياسياً): السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية بل والمجتمع المدني كذلك.
وتبعاً لذلك فليس هناك شورى حقيقية للرعية في إدارة شؤونهم أو السماع لأصواتهم ولا يكاد يسمع إلا حجة فرعون الخالدة: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، ويصحب ذلك أيضاً السطو على المال العام الذي هو في المفهوم الإسلامي (مال الله) أو (مال الأمة) واحتكاره واستعباد الناس به، فهؤلاء المستبدون يتصرفون في مال الأمة كما يحلو لهم دون رقيب أو محاسب، وكأنه ملك خاص بهم. والاستبداد السياسي المذكور له أشكال ثلاثة في عالمنا الإسلامي: الاستبداد العسكري السياسي، والاستبداد القبلي السياسي، والاستبداد العلمائي السياسي على طريقة ولاية الفقيه، وهو استبداد ذو طبيعة واحدة في كل من هذه الأشكال على اختلاف الصور والألقاب الظاهرة.
أما الاستبداد العسكري فهو أن يتحكم المسؤولون عن وسائل العنف في الدولة، والتي تتمثل في الدفاع الوطني أو قوة الجيش خارجياً والمتمثلة في الشرطة أو الأمن داخلياً – يتحكمون في القرار السياسي بسلطة القهر والعنف والإذلال ودون اعتبار لضوابط القانون والأخلاق التي تعطي الشرعية اللازمة لاستخدام وسائل العنف الرسمية، بل ويساندهم في ذلك في عدد من البلدان قوات من العصابات أو المافيا المنظمة التي تصل أعدادها لمئات الألوف في مجتمعات الملايين، والتي تتخذ مسميات لمهنة جديدة غير شريفة في مجتمعاتنا مثل: البلطجية والشبيحة والبلاطجة والحشود والميليشات وغيرها. وقد رأينا بأم أعيننا في سياق (الربيع العربي) تلك العصابات كيف تتقدم المشهد في تصفية المعارضين والمتظاهرين، فتقف وراءهم القوات الرسمية الداخلية والوطنية يؤمنون لهم المكان عن بعد، كما رأينا بأم أعيننا في عدد من شوارع العواصم العربية خلال السنوات المنصرمة.
وأما الاستبداد القبلي والاستبداد العلمائي فهو أن يرتفع فوق الناس قوم من القوم لمجرد الانتماء لنسب معين أو لمؤسسة دينية معينة، ولكن هذا الارتفاع للقيادة تكون دون حمل المسؤوليات اللازمة للقيادة، بل تصنع لهم هالات من القداسة وتنسج حول وجودهم قصص من التاريخ القديم والمعاصر من أجل تعزيز سلطة استبداد هو أيضاً عسكري في معناه ومبناه، ولو اتخذ أشكالاً أبوية وأخوية وعلمية وادعى أشكالاً من الديمقراطية والشورى وسيادة القانون ودعاوى العدالة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ولكن هذا الاستبداد السياسي في أشكاله كلها لا يمكن أن يوجد أو يستمر دون ظهير من نوع آخر من الاستبداد، ألا وهو الاستبداد الديني، ورحم الله عبد الرحمن الكواكبي فقد كتب عن ذلك وأفاض في كتابه: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. والاستبداد الديني في صورته الإسلامية معناه أن يدعي أناس تمثيل الإسلام بالأشكال والصور والألفاظ والألقاب، والإسلام منهم بريئ بالمقاصد والمعاني والمبادئ والقيم.
ورغم ذلك فهم يحتكرون تعريف الإسلام ويتكلمون لغة الحلال والحرام، ويستشهدون في كل أمر بظواهر من المصدرين الأقدسين: الكتاب والسنة، ولكنه استشهاد في غير محله وتلبيس في غير سياقه. ثم لا يرضى المستبد بالدين بالنقد لفقهه أو فهمه أو اجتهاده، بل يخلط بين سلطانه وسلطان الله تعالى عن ذلك، ويخلط بين نقد الناقدين لرأيه هو ونقدهم لشريعة الله نفسها، فيسارع إلى التكفير والتبديع والتفسيق تحقيقاً لأغراضه، والتي هي دائماً ما تدور حول خدمة المستبد السياسي وتثبيت أركانه.
والاستبداد الديني له نوعان، كلاهما يؤيد الاستبداد السياسي على طريقته ويشرعن له: استبداد ديني مع السلطة السياسية، واستبداد ديني معارض للسلطة السياسية. فأما الاستبداد الديني الذي هو مع السلطة، فهم علماء السلطة أو عملاء الشرطة، يشرعنون لهم البغي والسرقة بل والقتل باسم الفتوى، ويخلطون بين مفاهيم الدولة الحديثة ونظامها ومفاهيم شرعية مثل: الطاعة والبيعة والعهد والسمع والطاعة والتقوى وما إلى ذلك. وبالتالي فالخطاب الإسلامي (الرسمي) يدور حول مفاهيم مثل: دار الإسلام، وأهل الحل والعقد، والبيعة، وأهل الذمة، والخوارج، وغيرها من المفاهيم والنظم والجماعات التي انتهت تاريخياً، رغم أنه لا يصح منهجياً ولا شرعياً ولا عملياً أن نعتبر ببساطة ودون تدقيق أن أعضاء البرلمان المعاصر خاصة إذا وصلوا إليه في انتخابات غير نزيهة هم أهل الحل والعقد بالمعنى القديم، ولا أن الانتخاب المعاصر خاصة مع التهميش للمعارضين وسحقهم هو بيعة شعبية، ولا أن دول منظمة التعاون الإسلامي خاصة مع الفرقة والاختلاف والتنازع وعدم الشرعية هي دار الإسلام، ولا أن الأقليات الدينية والعرقية في ظل الدساتير المعاصرة هم أهل الذمة، ولا أن الفرق أو المذاهب هي أحزاب سياسية ولا العكس، ولا أن الذين يدعون إلى احتجاج سلمي أو عصيان مدني أو إلي ثورة على الاستبداد والفساد هم (خوارج)، وهكذا.
بل ويرقى (أو ينحدر) الاستبداد الديني كما يشرح الكواكبي: (بعوام البشر -وهم السواد الأعظم- إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الاله المعبود بحق و بين المستبد المطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق اذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، و الرفعة عن السؤال و عدم المؤاخذة عن الافعال … يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، و يزيدون تعظيمهم على التعظيم لله). فنجد الخلط بين الحكام والوزراء وبين الرسل والأنبياء، وكل ذلك في خدمة الاستبداد السياسي ودعم أركانه في نفوس البسطاء.
وأما الاستبداد الديني الذي يدعي أنه معارض للسلطة أو أنه ينصحها ويقومها باسم الإسلام، فأصحابه يخدمون المستبد أيضاً ولكن بشكل مختلف، فنجدهم يعرفون (الأجندة الإسلامية) و(المشروع الإسلامي) و(الإصلاح الإسلامي) تعريفاً ضيقاً مغرضاً يسيء إلى الإسلام أكثر مما ينصفه، ويجعلون من الشريعة مشكلة تعقد الواقع بدلاً من أن تكون حلاً لمشكلات الواقع، ويعبثون بأولويات الشريعة الإسلامية وأحكامها فيشوهون صورتها عند المسلمين وغير المسلمين، والشريعة كما يقول ابن القيم رحمه الله: (عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها ومصلحة كلها)، ولكن الاستبداد الديني في هذه الصورة يتجاوز العدل والرحمة والحكمة والمصلحة وبقية المعاني والمقاصد، ويقف على الحرفيات والمظاهر وسفاسف الأمور، ثم تجدهم لا يفرقون بين الذنوب والجرائم، فيجعلون من سلطة الدولة الإسلامية التي يحلمون بها أن تراقب حركات الناس وسكناتهم وتعاقبهم إذا ظنت الشرطة أن شخصاً ما يرتكب محرماً مجمع عليه أو مختلف فيه، وبالتالي فهم يزيدون من مساحات التحكم والاستبداد والتسلط ومعهم الفساد واستغلال النفوذ، ولكن باسم الإسلام هذه المرة.
وإذا أراد المستبد أن يكسب أصواتاً في انتخابات يضطر إلى إجرائها أو تأييداً من الشارع في وقت حرج، إذا هو ينحاز يميناً إلى الاستبداد الديني، فصار المستبد بين عشية وضحاها نصيراً للمواد الدستورية التي تجعل الشريعة مصدر التشريع أو (ال)مصدر للتشريع بإضافة الألف واللام وتعظيم هذا التغيير الشكلي المحدود وتضخيمه، وصار المستبد فجأة داعياً ومطبقاً للحدود الشرعية (والتي يبدأ فيها بأشد معارضيه وينسى في تطبيقها نفسه وحاشيته على أي حال)، وأضحى المستبد فجأة كذلك حارساً للأماكن المقدسة وباكياً على أعتابها ومؤدياً للشعائر والنوافل الظاهرة في أكمل الصور، ثم يصل المستبد إلى مدى الإسلاموية المزعومة فتجده منحازاً ضد المرأة سياساتياً وقانونياً باسم أشد الآراء الإسلامية ظلماً لها وهضماً لحقوقها وباسم الحفاظ على الهوية الأصيلة والتراث العتيد، وهلم جراً.
ويا للعجب أنه بسبب ضعف هذه الأمة وعجزها وجهل معظم أبنائها، تكون النتيجة فعلاً تأييداً أوسع للمستبد وتصديقاً لتوبته المزعومة وفرحاً بحدوده المشبوهة. ولكن مقاصد الشريعة الإسلامية هي المشروع الفكري الإسلامي ضد الاستبداد بأنواعه جميعاً: العسكري منه والقبلي، والقومي منه والإسلامي، والحرفي منه والمذهبي.
قناعتي أن نشر علم وفكر ومنهج وطريقة تفكير مقاصد الشريعة في قضايا الحياة جميعاً وقضايا السياسة والشريعة بالذات، هو إحدى أنجع أدوات تفكيك الاستبداد بكل منظوماته وأشكاله.
مقاصد الشريعة هي الأهداف والغايات والحكم والمعاني التي يدركها كل عقل سليم، والتي هي مقصودة في كل ملة وشريعة، وهي التي تمكن الناس العاديين من سؤال: لماذا؟! لماذا تحكمونا أنتم؟ وأي شرعية تمتلكون؟ ولماذا نجوع ونجهل ونمرض وفي بلادنا كل هذه الخيرات؟ ولماذا طبقنا هذه السياسات الفاسدة؟ لمصلحة من؟ ولماذا أصدرنا هذا القانون ولو كان جائراً؟ ولماذا أفتى المفتون بهذه الفتوى ولو كانت خطأ؟ ولماذا سجن هذا المعارض دون جريمة؟ ولماذا حرم هذا الإنسان من حقه؟ ولماذا لا نكرم المرأة والطفل والكبير؟ … وهكذا دواليك.
مقاصد الشريعة هي التي تعرف الأولويات: فالضروري قبل الحاجي، والحاجي قبل التحسيني. إذن، لا يصح أن نصرف الوقت والمال والجهد في التحسيني الذي يغطي به المستبد على فشله في توفير الضروري ثم الحاجي، ولا يصح أن تضيع حرمة الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال باسم أساطير وأوهام وألقاب وأحلام، ولا يصح أن نستهين بحرمة الحياة وهدف العدل ومعنى الشرف وقيمة الإتقان وخلق النظافة ظاهراً وباطناً.
ومقاصد الشريعة هي التي تضبط الفتوى لكي تحقق الشريعة لا لتهدمها، وتجعل الدين رقيباً على السلطان لا خادماً له، وتجعل الشريعة دافعاً للأخلاق لا مضيعة لها، وتجعل المصالح العامة معياراً لنجاح السياسات لا الصور والأرقام الكاذبة.
إذا استطعنا أن نجعل القيم والمقاصد والأخلاق والغايات الكبرى هي معايير السياسات الحكومية، وأهداف الأحكام القضائية، وضوابط العمل الإعلامي، وقيم النشاط الفني، ورسالة المؤسسات المدنية، وإطار الفتوى الشرعية، حينها نكون فككنا جزءاً كبيراً من منظومة الاستبداد ومضينا قدماً في طريق الربيع الحقيقي.