يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“إِحالَتُكَ الأَعْمالَ عَلَى وٌجودِ الفَراغِ مِنْ رُعُوناتِ النَفْسِ.”
هذه الحكمة يقول فيها الشيخ: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس)، أي بتعبير آخر: (ليس هناك شيء اسمه ليس عندي وقت)! فهذه الأعمال التي نتحدث عنها من صلاة وذكر وتفكر وعبادة كلها تتطلب وقتاً،
ولكن أحياناً يسوِّف العبد أى يقول سوف سوف أو يقول ليس عندي وقت، السنة القادمة إن شاء الله، رمضان القادم، الشهر القادم، الأسبوع القادم، غداً، وهكذا. هنا يقول الشيخ إن هذا من رعونات النفس، يعني من مراهقة النفس، من عدم الفهم الناضج ومن عدم العقل الناضج، أي من قلة العقل، لماذا؟ لأن الوقت يتسع لكل شيء، إن شاء الله.
ولكن القضية كما يقال بلغة العصر قضية أولويات، يعني أنت تخرج من بيتك وعندك مثلًا عدد معين من الساعات وعدد معين من المهمات فستؤدي الأَوْلَى ثم الأَوْلَى من هذه المهمات. تقول مثلاً رقم اثنان أو رقم أربعة أوْلَى والبقية تؤجل للغد، و{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ولو كان لديك عشرة دقائق مثلاً وعندك واجبات كثيرة منها الصلاة المفروضة، فالأولى أن تؤدي الصلاة المفروضة. ولكن أحيانًا تأخذ الدنيا الأولوية اليوم، ثم في الغد تأخذ الدنيا أولوية، ثم في الأسبوع القادم تأخذ الدنيا أولوية، ثم في الشهر القادم تأخذ الدنيا أولوية، ويتأجل الدين، أي تقوم فقط بالفرائض، ولعل بعض الناس يقصّر حتى في الفرائض، ويقول ليس عندي فراغ وليس عندي وقت!
وهذا التسويف ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إن أكثر صياح أهل النار من سوف). هذا التسويف لا ينبغي ولا يصح، وإنما ينبغي للمسلم أن يبادر وأن يستغل الأوقات وأن يستثمر الأوقات.
هذا وإن في الأوقات متسع كبير، والله عز وجل يبارك في الوقت والعمل، إذا استطعت أن تستثمر الوقت وتنظم الوقت بهمة ودأب. وأهمية هذه القضية ليست فقط في إدارة العمل الدنيوي، بل في العمل الديني وفي الأوراد والعبادات كذلك. إذا كان عليك بعض الأوراد من الذكر مثلًا واضطررت للخروج لموعد عمل، فاستثمر وقتك وأنت في المواصلات. أعرف عدداً من الأخوة والأخوات الذين حفظوا كتاب الله في المواصلات بدلاً من الانشغال بالنظر إلى الناس والشوارع.
وفي البلاد المتقدمة نجد الناس دائماً ما يقرأون في وسائل المواصلات. أنا أراجع هذه الفقرة الآن وأنا جالس في أحد قطارات لندن. القطار مزدحم، ولكنه هادئ تماماً، ولا أكاد أرى حولي أحداً إلا ويقرأ أو يكتب أو يطالع، ولو كان واقفاً! وهذا من حسن استغلال الوقت والعمر. وإذا فعل الناس هذا لدنياهم، فحري بالمسلم أن يحرص على ذلك لدينه.
ولابد أن تترتب الأولويات وأن يؤدي المسلم ما هو أَوْلَى، وحق الله لا ينبغي أن يضيع. أعلمُ أن من القواعد في شرع الله أن: (حقوق وأمانات العباد أَوْلَى من حق الله المجرد). ولكن هذا لا يعني كذلك أن تأخذ حقوق وأمانات العباد الساعة تلو الساعة واليوم تلو اليوم حتى آخر العمر. وإنما ينبغي لنا أن نستثمر الأوقات حتى نستطيع أن نؤدي ما ينبغي أن يُؤدى، والتسويف من رعونات نفسي يخدعنا به الشيطان. { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، كَلَّا!).
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نستغل ونستثمر أوقاتنا فيما يرضيه.