يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“الأَعْمالُ صُوَرٌ قَائَمةٌ، وَأَرْواحُها وُجودُ سِرِّ الإِخْلاصِ فِيها.”
موضوع الإخلاص أخطر من موضوع التوكل، فهو موضوع أساسي إيماني عقدي، ولكن لعل الشيخ هنا قصد بتقديم الرجاء والتوكل على الإخلاص في هذه الرحلة الإيمانية لكي يرشدنا إلى أهمية الرجاء في رحمة الله أن يرزقنا الإخلاص، بل وأهمية التوكل على الله تعالى في هذه القضية الدقيقة.
فالإخلاص سر من أسرار الله يودعه قلب من يحب من عباده، كما ورد في الحديث القدسي. والشيخ ابن عطاء الله السكندري –رحمه الله ورضي عنه- في هذه الحكمة يقول: (الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها)، أي يشبّه الشيخ العمل بالجسد، والعمل بلا إخلاص كأنه جسد بلا روح، فالجسد بلا روح ليس له قيمة، وليس لأعمالنا قيمة بلا إخلاص.
ما هو الإخلاص؟ هو توجه النية وتوجه القصد لله سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر الذي افتتح به البخاري كتابه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها –وفي رواية: يتزوجها-، فهجرته إلى ما هاجر إليه). فهذه هجرة وهذه هجرة. أناس هاجروا من مكة إلى المدينة وآخرون أيضاً هاجروا من مكة إلى المدينة. ولكن هجرة كانت لله ورسوله فأجر أصحابها عليها بما هو معروف، وهجرة كانت من ذلك الرجل الذي يشير الحديث إليه، وهو رجل هاجر من مكة إلى المدينة فقط ليتزوج، وهذا حلال طيب، ولعله يؤجر بنية الزواج! لكنه لا يؤجر على نية الهجرة، لأن العمل بالنية، والأمور بمقاصدها.
وقضية إخلاص النية لله سبحانه وتعالى قضية أساسية؛ لأنه بدون نية صالحة يعتبر العمل رياء، بمعنى أن الإنسان يرائي الناس ويعمل العمل من أجل أن يروه ليس إلا، وليس من أجل الله، وهو –والعياذ بالله- نوع من أنواع الشرك! قال تعالى في وصف المنافقين: {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً}.
وذكر الله سبحانه وتعالى أيضاً من صفات الذين لهم (الويل) والعياذ بالله: {الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون}. لابد أن يكون العمل خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى. لابد أن أسأل نفسي: لماذا أعمل هذا العمل؟ لماذا أنفق هذه النفقة؟ ولماذا أحج هذه الحجة؟ ولماذا أساعد هذا الإنسان؟ ولماذا أصلي هذه الصلاة؟ ولماذا أقرأ هذا الكتاب؟ وهكذا.
وبالإخلاص أيضاً تستطيع أن (تحول العادة إلى عبادة)، كما يقول العلماء، فتأكل وتشرب وتتزوج وتعمل وتذهب وتروح وتشترى وتبيع، هذه كلها تصبح عبادات بالإخلاص في النية وحسن النية.
فتأكل مثلًا وتنوي طبعًا سد الجوع، ولكن تنوي أيضاً أنك إذا أكلت تقويت على الطاعة، مثلًا أنوي أن آكل حتى أستطيع أن أصلي، فتؤجر على مجرّد الأكل من هذا الباب. وألبس مثلًا لكي أتزين ولكنني أيضا ألبس لأستر عورتي، هذه نية صالحة فيأجرني الله سبحانه وتعالى عليها، وألبس مثلًا حتى يظهر الإسلام بالمظهر الجيد أمام جاري غير المسلم، أو أمام الناس الذين يرون أن هذا الرجل من رواد المسجد، وهكذا.
وأعمل ليس فقط من أجل (مستقبلي) ولا من أجل (المرتب) في حد ذاته، بل من أجل ما أنفق منه على عيالي، وأتصدق منه، وأحج، وأجاهد به أنواعاً مختلفة من الجهاد. هذه كلها نيات تحول العادات إلى عبادات. بل إن العمل الدنيوي نفسه هو خدمة للآخرين بشكل أو بآخر، وقضاء لحوائجهم بشكل أو بآخر، فأؤجر عليه بهذه النية ثواباً من عند الله.
وإذا وضعنا الإخلاص والنية المتوجهة لله سبحانه وتعالى نصب أعيننا نستطيع أن نحول كل أعمالنا إلى عبادات، فتصبح كل ساعات اليوم وكل أعمال اليوم عبادات نؤجر عليها، هذا كله يدفعنا خطوات وخطوات في طريق السلوك إلى الله. فبعض الناس يسلك إلى الله سبحانه وتعالى فقط بالصلاة في أوقاتها، والزكاة حين يحول الحول، وغير ذلك من العبادات. لكن البعض الآخر يسرع في طريق الله سبحانه وتعالى بأن يحول العادات كلها إلى عبادات، وأن يحول حياته كلها إلى نيات حسنة.
روي عن أحد الصالحين أنه سمع طارقاً ببابه وعنده بعض تلاميذه، فعدّ لهم قبل أن يفتح الباب –كما يذكر الرواة- عشرات النوايا التي نواها فقط لكي يفتح الباب! منها: نويت إذا فتحت الباب ووجدت وراءه مسكيناً أعطيته طعاماً، وإذا وجدت ملهوفاً أغثته، وإذا وجدت أعمى أرشدته، وإذا وجدت صغيراً رحمته، وإذا وجدت كبيراً وقّرته، وهكذا. هذه عادة حوّلها الرجل الصالح إلى عبادة، بإخلاص النية وهذه كلها في القلب، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
(الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها)، واستعمال الشيخ لكلمة (سر) هنا هو من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله سبحانه تعالى، قال: (الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب من عبادي). فإذا أحبك الله سبحانه وتعالى أودع في قلبك الإخلاص، وهو شيء يقر في قلب المرء، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي وقر في قلب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وهذا الشيء الذي يقر في القلب إذا كان الإخلاص يبلغ العمل الصالح -مهما كان محدوداً- مبلغا بعيداً، ويبلغ النفع بالمرء مبلغاً بعيداً، وهذا هو الفارق بين العمل بغير إخلاص والعمل بإخلاص، لأن ما كان لله دام واتصل، وللإخلاص بركة خاصة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا هذا السر –الإخلاص- ونسأل الله عز وجل أن نستطيع بهذا السر أن نحول العادات إلى عبادات، وأن تكون حياتنا كلها لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له}.