يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“ما طَلَبَ لكَ شَيْءٌ مِثْلُ الاضْطِرارِ، وَلا أَسْرَعَ بِالمَواهِبِ إلَيْكَ مِثْلُ الذِّلَّةِ والافْتِقارِ.”
الحكمة التى بين أيدينا تتناول الدعاء؛ ولكن ليس آداب الدعاء ولا فقه الدعاء، وإنما تتناول حال الدعاء، أي الحال القلبي للمسلم حين يسأل الله تعالى من فضله حتى يكون دعاء مستجاباً بفضل الله تعالى.
والله عز وجل يسأل الكفار في كتابه العزيز: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله؟}، فالله عز وجل يُشهد الكفار على أنهم حين يضطرون في دعائه له سبحانه فإنه يجيبهم! فإذا كان دعاء المضطر الكافر يستجاب من الله سبحانه وتعالى نظراً لما فيه من الصدق والحرارة والتسليم بالقدرة الإلهية، فما بالك بالمضطر المؤمن؟
الاضطرار إذن يسرع باستجابة الله للدعاء، ولذلك فإن الشيخ في هذه الحكمة التي نتدارسها يقول: (ما طلب لك شيء مثل الاضطرار). أنت مضطر وترفع يديك لله عز وجل، وتحس بالحاجة الشديدة، ويؤيد ذلك انقطاع الأسباب أحيانًا، كما مرّ.
وهذا ينطبق أيضًا على المسائل العبادية، فأنا مضطر إلي مغفرة الله عز وجل ورحمته، وأحسّ بهذا الاضطرار حين أسأله أن يفتح عليّ من مغفرته ورحمته وفضله. إذن حتى في أبواب العبادات وأبواب المناجاة، ليس هناك شئ أسرع بالطلب مثل أن يشعر المسلم بالاضطرار والفقر والتعلق بمحض الرحمة الإلهية.
ونرى هذا الحال في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، ونذكر منها مثلاً غزوة بدر، حين رفع يديه صلى الله عليه وسلم حتى سقط الرداء عن كتفيه وحتى رؤي بياض إبطيه، أي أنه رفع يديه عاليًا، قائلاً: (اللهم إن تهلك هذه العصابة –يعني المجموعة– لن تعبد بعد اليوم)، ورفع يديه صلى الله عليه وسلم ودعا دعاء طويلاً! هذا دعاء المضطر، هذا الذي يسرع إليك بالاجابة.
ثم يشرح الشيخ أحوالاً أخرى مفيدة في الدعاء. قال: (ولا أسرع إليك بالمواهب مثل الذلة والافتقار)، أي أن تتذل إلي الله عز وجل، وتحس بالفقر له. قال بعض العلماء في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء}، قالوا: هذه تنطبق أيضًا على من يحس بالفقر ويطلب من الله تعالى العون، وهو تأويل بعيد، ولكن المعنى صحيح لأنه إذا كان الإنسان الفقير يحق عليك له الصدقة؛ فما بالك إذا أظهرت لله عز وجل فقرك وهو سبحانه وتعالى الكريم، بل الأكرم، فإذا أظهرت له الفقر وأظهرت الذلة وأظهرت الخشوع فإن الله عز وجل يكرمك ويعطيك ما تسأل أو أفضل مما تسأل.
وقوله: (ولا أسرع بالمواهب إليك)، لأن الله عز وجل هو الذي يمنحنا المواهب، دنيوية أو دينية، لكن الشيخ إنما يقصد المواهب الدينية بالأساس، كالحال القلبي والطاعات والقربات.
وصحيح أن للدعاء شروط وفقه، وهي أن تتوجه إلى القبلة، وألا تدعو بإثم ولا قطيعة رحم، ويستحب أن ترفع يديك عند الدعاء، وتبدأ بالحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل منه أن تتوسط وتختم بالصلاة على النبي كذلك، هذا من فقه الدعاء؛ ولكن الحال أبعد من الفقه، فهو يتعلق بالحال القلبي الذي هو أساس للدعاء وليس فقط من (المستحبات).
ففي أحكام الإسلام هناك ظاهر وهناك باطن (هذا دون أن ندخل في متاهات من سُمّوا بالباطنية، والذين أساءوا استغلال المعاني الباطنية لتعطيل وتبديل الظواهر والفقه والشرع). فالظاهر هنا هو هذا التوجه إلي القبلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ورفع اليدين، إلى آخر آدب الدعاء التى تعلمناها من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الباطن فهو أن تشعر بالدعاء وتشعر بالفقر والحاجة والذل والاضطرار إلى الله تعالى ، وهذا كما يظهر أيضاً في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في أحوال مختلفة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان له دعاء حين يستيقظ، وحين ينام، وحين يضع ثيابه، وحين يخلع ثيابه، وحين ينظر إلي المرآة، وحين يغتسل، وحين يجتمع مع أهله، وحين يرى الهلال، وحين يصبح، وحين يمسي، وحين يخرج، وحين يدخل، وكان له دعاء في كل حال، فيعلمنا أن نرتبط دائمًا بالله عز وجل بالدعاء.
ولكنك إذا تتبعت تاريخ الدعاء –إن صح التعبير- لا تجد أحدًا قبل محمد ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم قد دعا ربه بمثل هذا، ولا الأنبياء قبله. لا تجد في الزبور ولا التوراة ولا الإنجيل مثل هذه الأدعية الكثيرة المتنوعة التي تظهر حجم وعمق هذه العلاقة بين هذا العبد المصطفى المجتبى صلى الله عليه وسلم وبين ربه سبحانه وتعالى، يدعوه في كل شيء، في أصغر شيء وفي أكبر شيء، وبمنتهى الخشوع والتفويض والإدراك لقدرة المدعو سبحانه.
ويظهر أيضاً من السنة أنه قد صاحب هذا الدعاء اضطرار وشجون قلبية. فعن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت فيناديه بلال فيغتسل، ثم يخرج فيصلى فأسمع بكاءه. فلم يكن هذا الدعاء النبوي الكريم مجرد كلام ظاهر لا يتعلق به حال باطن، وإنما كان الاثنين معاً في أعلى وأسمى الصور.
ومن إجابة الدعاء ما يكون في الآجل ويكون أفضل من العاجل، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد يثاب يوم القيامة على دعاء لله لم يستجاب، يقول صلى الله عليه وسلم: (حتى يتمنى العبد أن لم يُستجب له دعاء قط)، يعني: أن تتمنى يوم القيامة أن الله عز وجل لم يستجب لك أبداً حين ترى أن الذي لم يجبه لك في الدنيا قد أخره لك يوم القيامة في صورة درجات هي أفضل من الدنيا وما فيها.
وحين لا يستجيب لك في الدنيا، فإنه سبحانه وتعالى يحسن لك الاختيار. وهل عودك إلا حسن الاختيار؟ وهو الذي يقول عن نفسه سبحانه: {بيدك الخير}، أي أنه عز وجل دائمًا ما يحسن لنا. فإن دعوت بشيء ولم يستجب لك فاعلم أنه يختار لك الخير، ولا يختار لك الشر أبداً. ولأنه أذن لك بالدعاء، فاعلم أنه يريد أن يعطيك، كما يقول الشيخ هنا.
وهذا العطاء يكون إما في هذه الدنيا أو في الآخرة. فلنترك الاختيار له سبحانه وتعالى، فـ {ربك يخلق ما يشاء ويختار}، ودائمًا ما يختار أفضل مما نختار، في العاجل والآجل.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الأدب في الدعاء له سبحانه، وأن يرزقنا الاضطرار في الدعاء له سبحانه، حتى نسلك في هذا الدعاء طريق الذلة والافتقار بين يديه سبحانه، وأن يثيبنا على دعائنا في الدنيا وفي الآخرة، إنه سميع مجيب الدعاء.