يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“كَيْفَ يُشْرِقُ قَلْبٌ صُوَرُ الأَكْوانِ مُنْطَبِعَةٌ في مِرْآتهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَرْحَلُ إلى اللهِ وَهُوَ مُكَبَّلٌ بِشَهْواتِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَطمَعُ أنْ يَدْخُلَ حَضْرَةَ اللهِ وَهُوَ لَمْ يَتَطَهَرْ مِنْ جَنْابَةِ غَفْلاتِهِ؟”
ثم إن العزلة ودخول (ميدان الفكرة) كما ذكر في المحطة الماضية لها آداب وشروط حتى تؤدي إلى تحصيل الأنوار و(إشراق القلب) – كما يسميه الشيخ في هذه الحكمة، لأنه قبل (التحلي) بالأنوار والفضائل، لابد من (التخلي) عن العيوب والنقائص، حتى تتحقق سنة الله تعالى في تهيئة الفراغ قبل ملء مساحة ما بالجديد.
يقول الشيخ: (ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة، كيف يشرق قلب صور الكون منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته).
ولنتحدث هنا عن ثلاثة معان:
المعنى الأول:
عن إشراق القلب بالنور وعلاقة ذلك بالكون وبالمادة وبالأشياء: كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟
المعنى الثاني:
عن الشهوات، كيف ينطلق القلب إلى الله سبحانه وتعالى رغم وجود هذه الشهوات؟ يتساءل الشيخ: أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟
المعنى الثالث:
ويتساءل الشيخ: أم كيف يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته؟ وحَضرة الله هى معية الله سبحانه وتعالى. وهذه (المعية) ليست بدعاً من القول، فقد قال تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، وقال: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وقال: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}. كل هؤلاء في (معية) الله.
لكن كيف يمكن أن نحقق هذه المعية رغم أن القلب مبتلى بالأكدار الذي يتحدث عنها الشيخ هنا؟ فالأكوان والمادة والحياة والناس والأشياء والشهوات كل هذه تنطبع في القلب كما تنطبع الصورة على المرآة، فتعكر صفاءها. وهذا تشبيه بليغ مفيد عظيم. فإذا افترضنا أن هذا القلب هو المرآة، فماذا في هذه المرآة؟ هل فيه فلان وفلانة والمال والوظيفة والعيال والطعام والسيارة والبيت والدنيا؟ أم أن في القلب نور؟ وأكرر أن هذا لا يعني أن نترك الدنيا والسيارة والمال والعيال والعمل، ليس هذا هو المقصود. وإنما المقصود: ماذا في سويداء القلب؟ هل نرى في القلب نور؟ قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَع}. بيت الله عز وجل الذي تعتزل وتختلي فيه لكي تحقق فيه وترى فيه وتتمثل فيه هذا النور الرباني. (ما وسعتني أرضي ولا سمائي)، كما ورد في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، (وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن). فقلب العبد المؤمن يتسع لنور الله تعالى، بنص الحديث. والنور يمحو الظلمة، وهذه طبيعته.
لكن، كيف يشرق القلب بنور الله تعالى وفي مرآته الأكوان و(الأغيار)؟ وهذا تعبير من تعبيرات أهل السلوك: الأغيار، وهو كل ما هو (غير) الله سبحانه وتعالى. هل هذا هو الذي في قلبك؟ أم أن في قلبك النور والذكر؟
ويتساءل الشيخ: أم كيف يرحل (أي القلب) إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ والشهوات ليست حراماً، فالإسلام ليس ضد الشهوات، ولم يحرم الشهوات، وإنما الإسلام نظّم الشهوات ليس إلا. ليس هناك شهوة خلقها الله تعالى فينا وهى حرام مطلقاً، لأن من سنن الله ومن قواعد الإسلام العامة مراعاة الفطرة والطبيعة البشرية.
فالله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئاً جعله في فطرتنا بشكل غريزي، كالطعام والشراب والشهوة والكلام والضحك والطرب للصوت الحسن، وغير ذلك. وإنما الإسلام ينظم هذه الفطرة، يعني شهوة الطعام تنظم هكذا، وشهوة الشراب تنظم هكذا، وحرم بعض الأطعمة وبعض الأشربة وبعض الأنكحة، وهكذا. والشهوة ليست محرمة في حد ذاتها وليست (خطيئة) في حد ذاتها في الإسلام، على خلاف بعض المعتقدات الأخرى، ولكن المحرم هو بعض أجزائها في ظروف معينة.
والقضية ليست الشهوة، وإنما المشكلة أن تتغلب الشهوة على القلب فلا ينطلق في رحلته إلى الله ويفتتن ويميل. {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}.
ويتساءل الشيخ: أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ هذه الشهوات تربطك دائماً إلى الأرض وإذا فكرت دائماً في شهواتك، فإنها تبعدك عن الله سبحانه وتعالى، ولهذا لابد أن تخلو العزلة من الشهوة ولو كانت حلالاً. قال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}. هذا من أحكام الاعتكاف، وهذه –بالمناسبة- هي الآية الوحيدة التي ورد فيها الاعتكاف صراحة في كتاب الله عز وجلّ، ولكنها دليل واضح وأصل محكم في موضوع العزلة الذي نتحدث عنه.
أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة فقد كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، واعكتف في العام الذي قبض فيه عشرين يوماً. وورد أنه صلى الله عليه وسلم قد اعكتف في غير رمضان كذلك، وليس الاعتكاف مقصوراً على رمضان.
ويتساءل الشيخ: أم كيف يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته؟ وهذا تعبير بليغ، يشبه فيه الشيخ الغفلة بالجنابة ويقول إن هذه العزلة هي الاغتسال الذي يطهرك من هذه الجنابة، جنابة الغفلات، فإذا غفلت عن ذكر الله وذكرت غيره سبحانه وتعالى، هذه وحدها تحتاج إلى استغفار وتحتاج إلى تطهر وتحتاج إلى ذكر حتى يجلو الله عز وجل قلبك، وهذا من فوائد العزلة.
لابد إذن أن يكون للمسلم وقتاً مع نفسه، ولا يمكن أن تتذرع بقلة الوقت، فهذا غير مقبول في هذا فالقضية قضية نصف ساعة أو ساعة تخلو فيها بالله سبحانه وتعالى وتتفكر وتذكر. ولذلك فالحكمة التي نتدارسها في الصفحات التالية يقول الشيخ فيها: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس)، فلا تقل إن هذه العزلة أو الخلوة ليس عندي لها فراغ ولو نصف ساعة، فهذه رعونة غير مقبولة.
نسأل الله –عز وجل- أن يطهرنا من جنابة الغفلات، ومن أسر الشهوات، وأن يدخلنا في النور وأن يجعل من فوقنا نوراً ومن تحتنا نوراً ومن أمامنا نوراً وعن أيماننا نوراً وعن شمائلنا نوراً وفي قلوبنا نوراً.