يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“ادْفِنْ وُجودَكَ في أَرْضِ الخُمولِ، فَما نَبَتَ مِمّا لَمْ يُدْفَنْ لا يَتِمُّ نِتاجُهُ. ما نَفَعَ القَلْبَ شَئٌ مِثْلُ عُزْلةٍ يَدْخُلُ بِها مَيْدانَ فِكْرَةٍ.”
وإذا استوعبنا وفهمنا –عقلياً- معاني الخوف والرجاء والتوكل والإخلاص، وأردنا أن نحوّل هذا الفهم العقلي إلي إحساس قلبي، فالطريق –كما يعلمنا الشيخ في هذه الحكمة- هو التفكّر.
والتفكر عبادة رائعة تدفعك دفعاً في طريق الله تعالى، وتسرع بك إلى الغايات القلبية والروحية، وقد ورد في الحديث: (تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً). ذلك لأن الذي يجلس متفكراً في الله أو خلقه أو سننه أو دينه أو شرعه، يحوّل بفكره المعلومات العقلية البحتة إلى أحوال قلبية وأنوار روحية.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
فأولو الألباب يتفكرون في السموات والأرض والليل والنهار بناء على العلوم والمشاهدات و(المعلومات) التى نعرفها عن الكون. والمعلومات موجودة في عقول الكثير من الناس، ولكنها لا تتعدى العقول إلى القلوب. ولكن الذين يتفكّرون في الكون مستحضرين خالق الكون جل وعلا، وفي السموات والأرض مستحضرين بديع السموات والأرض ينتهى بهم التفكر إلى السجود القلبي {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك}، بل وإلى الخوف من الله {فقنا عذاب النار}. وهكذا تنفع (الفكرة) القلب. {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
ولكن الشيخ هنا يرشدنا إلى معنى آخر يقوي وينمي ويعمّق التفكر، وهو كذلك معنى من المعانى التى يخطئ في فهمها الكثيرون وينحرفون بها عن مقاصد الدين وروح الإسلام، ألا وهو معنى الخمول والعُزلة.
والشيخ لايعني بـ (الخمول) هنا الكسل كما هو شائع في كلامنا الدارج! وإنما يعني خمول الذكر بين الناس والذي يتحقق بالعزلة عنهم. وهذه (العزلة) التى يحدثنا عنها الشيخ هنا عزلة محدودة لوقت محدود، وليست دائمة أبداً. فإن من الانحرافات في هذا الباب أن ينعزل المسلم عن العالم أبداً ويعتزل الدنيا، ليس بشكل مؤقت أو لهدف معين كما هو مطلوب هنا، وإنما عزلة مؤبدة وخمول قاتل! والإسلام بريئ من هذا الفعل لأنه (لا رهبانية في الإسلام)، و(المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، كما ورد في الحديث. فالمسلم يخالط الناس، ويعمل، ويتزوج، ويصل الرحم والقريب والجار، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصادق ويعادي في سبيل الله، وهكذا.
إذن، فما هى هذه (العزلة) التي يتحدث عنها الشيخ؟ وهل لها (دليل) من سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أم أنها بدعة في دين الله؟
الأصل الواضح في قضية العزلة، بالإضافة إلى عزلته صلى الله عليه وسلم في غار حراء قبل الوحي وبعده، هو اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان، كما هو معروف – ذاكراً، عابداً، مصلياً، متفكراً.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده. وعنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين من شوال.
والشيخ رحمه الله ورضى عنه يربط هذه السنة النبوية الكريمة بسنة إلهية حكيمة، وهي أن كل ما يُرجى منه النمو والإنتاج من مخلوقات حية، سواء كانت نباتاً أو حيواناً أو حتى بشراً، لابد له من مرحلة يُدفن فيها في الظلام وينمو بعيداً عن كل العوامل الخارجية.
هكذا تنمو البذرة في ظلمة الأرض حتى تتضح جذورها وساقها ثم تشق الأرض، وهكذا ينمو الجنين في ظلمات الرحم حتى تظهر أعضاؤه وتتكون أعصابه ثم يولد، وهكذا ينمو القلب والعقل في خلوة مسجد أو في عزلة مفروضة أو غير مفروضة حتى يدخل ميدان الأفكار الربانية الروحانية، ويرحل من الأكوان إلى المكون، ومن المخلوقات إلى الخالق، ومن العلامات والأحكام والشعائر إلى المعاني والحكَم والمقاصد. ما أنفع هذا للقلب! وما أحلى هذه الخلوة التى تعود بالعبد إلى صفاء الإيمان وصدق الصلة. وإلا، (فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه)، كما يقول الشيخ، وهو قانون عام وسنة إلهية حكيمة مطردة.
وللعزلة (المؤقتة) فوائد أخرى، أحدها تجنب المعصية، ذلك لأن أغلب المعاصي يتعلق بالبشر والمعاملات مع البشر، فحري بالذي هو معزول عن البشر أن يتجنب المعاصي.
والعزلة أيضاً تدرب المرء على حفظ لسانه من اللغو والباطل، {وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً}. والعزلة تدرب العبد أيضاً على إخلاص النية لله تعالى حيث يتجنب نظر الناس إليه وانشغال قلبه بحديثهم عنه، هذا رغم أن الرياء قد يدخل على المرء ولو كان وحيداً حين يشغل نفسه كثيراً بحديث الناس عنه ونظرة الناس إليه. ولذلك، فالشيخ ابن عطاء الله رحمه الله ورضى عنه يقول في موضع آخر: (ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلق إليك). ولكن على أية حال، فالعزلة فيها نوع من التدريب على الإخلاص حين يتوجه المرء بعقله وقلبه إلى الله تعالى وينسى الناس ورأي الناس فيه، له أو عليه.
والعبد إذا ابتغى ما ينفع قلبه ارتقى في معارج الوصول وتقدم في السير القلبي إلى الله. فأحياناً ما ننسى عمل القلب ونركز على عمل الجوارح، مما يعرض القلب للقسوة والغفلة، ويعرّض الرحلة إلى الله إلى صعوبات ومعوّقات. ولكنّ العزلة (المؤقتة) عن الناس والتفكر في أمر الله عز وجل تأخذ العبد مرحلة بل مراحل في الطريق، فما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة.