يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“ما بَسَقَتْ أَغْصانُ ذُلٍّ إلّا عَلى بِذْرِ طَمَعٍ.
ما قادَكَ شَيْءٌ مِثْلُ الوَهْمِ. أنْتَ حُرٌ مِمّا أنْتَ عَنْهُ آيِسٌ. وَعَبْدٌ لِما أنْتَ لَهُ طامِعٌ.”
التخلية قبل التحلية تمر بالبحث عن عيب خطير قد يقدح في الإيمان نفسه، ألا وهو الذلّ لغير الله تعالى، ولأن (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)، فالشيخ يعطينا تحليلاً لأسباب هذا العيب ويوجهنا الى كيفية التخلص منه.
والسبب المباشر لأن يذل الإنسان نفسه للناس هو الطمع فيما في أيديهم. والشيخ يعبر عن هذا في عبارة رقيقة يقول فيها: (ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع)، أي أن بذرة الطمع الصغيرة تروى بالأقوال والأفعال التى يحاول بها أن يحقق بها الطامع أهدافه، فيزداد ذلاً، وتكبر وتبسق شجرة الذل الخسيسة.
ثم يقول: (ما قادك مثل الوهم، أنت حر مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع)، فالطمع يولد عبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وهذه هى الخطورة. ولكن، ما سبب هذا الطمع؟ وما سبب العبودية والذل لغير الله سبحانه وتعالى؟ الشيخ يشرح هنا أن الوهم هو السبب، فقال: (ما قادك مثل الوهم). ولكن ما هذا الوهم الذي يتحدث الشيخ؟
الذي طمع فيما في أيدي الناس يتوهم أن الناس ينفعون أو يضرون، يتوهم أن هذا الرئيس أو المدير أو الغني أو القوي أو ذا النفوذ سينفع أو يضر، فيطمع فيذل لغير الله تعالى. ولكنّ الناس لا ينفعون ولا يضرون، والله عز وجل هو النافع الضار. فالذل هنا مصدره الطمع، والطمع مصدره الوهم في الحقيقة.
والشيخ يقول: ما قادك مثل توهم أن الناس ينفعون أو يضرون. صحيح أنك لابد أن تتعامل مع الناس، أو تسأل الناس أن يصنعوا لك شيئاً أو يقدموا لك معروفاً. هذا سؤال مشروع وليس فيه ما يخالف الأدب مع الله تعالى إذا لم يكن هو سؤال الطمع الذي ينبت الذل لغير الله، وهو نتيجة الوهم في أن الناس ينفعون أو يضرون.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الحاجات بعز الأنفس)، فمن الطبيعي أن تسأل الحاجات، ولكن إن سألت الناس معروفاً أو حتى صدقة، لابد أن تسأل بعزة نفس، تسأل وأنت لست في حالة من ذل ولا طمع. لا ينبغي أن تزرع بذرة من الطمع، ثم ينمو الذل ويبسق كما تبسق الشجرة، حتى يصير عميقاً متأصلاً، ثم يتحول إلى عبودية لغير الله والعياذ بالله.
لكنك إن حررت نفسك من الوهم أن العبد ينفع أو يضر، نجوت. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس وهو صبي قائلاً: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك).
والحرية الحقيقية هي: العبودية لله، هذا هو تعريف الحرية في الرؤية الإسلامية للحياة، فإذا كنت عبداً لله سبحانه وتعالى فأنت حر مما سواه، أنت حر من البشر، أنت حر من أي ضغوط اجتماعية، أو اقتصادية، أو نفسية، أو مالية. أنت حر من كل هذا لأنك (حر مما أنت عنه آيس)، وآيس يعني يائس أي مما في أيدي الناس. فإن صح إيمانك ورجاؤك في الله، يئست من أن الناس سوف ينفعوك أو يضروك، وصرت عبداً حقيقياً لله سبحانه وتعالى، لا ذل ولا طمع ولا وهم.
هذا وقول الشيخ رحمه الله رضى عنه بأنه (ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع) يتحقق أيضاً في الطمع فيما عند الله والذل لله، فالطمع فيما عند الله يؤدي إلى الذل له سبحانه وتعالى، ويؤيد العبودية لله تعالى. وهذه هي الحرية الحقيقية، أن تستعبد نفسك لله عز وجل فقط لا سواه عن طريق الطمع فيما عنده والذل له، واليأس من النفع والضر من سواه.
وكلما طمعت فيما عند الله كلما تذللت له، وكلما وقفت بالباب، واعتمدت على خالق الأسباب، وألصقت الوجه بالتراب، وتوجهت إليه سبحانه وتعالى بهذا الطمع الذي يولد الذل، وهذا الذل الذي يولد العزة.
إذن، (ما بسقت أغصان ذل إلا على بذور طمع) نفهمها بشقين:
الشق البشري الذي تطمع فيه فيما في أيدي الناس وهذا وهم؛ لأن النافع الضار هو الله سبحانه وتعالى، وهذا ينبغي أن نخلّص النفس منه لأنه يؤدي إلى العبودية والذل لغير الله تعالى.
والشق الآخر هو الطمع فيما عند الله سبحانه وتعالى والوقوف بباب الله عز وجل مع الذل الذي يولد العبودية، ولكن ما أحلاها من عبودية، وما أرقاها من عبودية، وما أعلاها من حرية، تلك التي تتمتع بها حين تتعبد لله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، فإذا صرت عبدا لله حقا فأنت حر مما سواه وأنت عزيز مما سواه، وأنت مرتحل إليه حقاً.