يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“لَوْ أَشْرَقَ لَكَ نورُ اليَقينِ لَرَأيتَ الآخِرَةَ أَقْرَبَ إلَيْكَ مِنْ أنْ تَرْحَلَ إلَيْها، وَلَرَأيْتَ مَحاسِنَ الدُّنْيا وقَدْ ظَهَرَتْ كِسْفَةُ الفَناءِ عَلَيْها.”
لا يمكن أن أمضي في رحلة إلى الله ناسياً رحلتي إلى الآخرة! لا ينبغي للعبد أن ينسى الموت، وهو الحقيقة الوحيدة التي اتفق على وجودها كل البشر، الأولون منهم والآخرون، والمؤمنون منهم والكفار. لا ينبغي للعبد أن يصبح ويمسى وهمّه الدنيا، وينسى نهايتها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من أن نهتم كثيراً بالدنيا؛ وليس هذا طبعًا من باب أن ننسى الدنيا، فنتركها للكفار بدعوى التفرغ للآخرة. هذا فهم منحرف. لكنّ المقصود هو أن لا ننسى الآخرة. قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح والدنيا همه، شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ومن أصبح والآخرة همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه فى قلبه، وأتته الدنيا وهى راغمة).
فحين تفتح عينيك في الصباح، راقب نفسك وسلها: أين همي؟ وفيم أفكر؟ أفي الآخرة؟ وفي ما بيني وبين الله سبحانه وتعالى؟ إذن، يجعل الله الغنى في قلبي ويكفيني ويرضيني، بل وتأتيني الدنيا وأنا زاهد فيها.
أما إذا أصبحتُ وهمي الدنيا، بمعنى أنني ما أن أفتح عينيّ في الصباح حتى أفكر في فلان أو فلانة، أو مكسب كذا، أو أي أمر من أمور الدنيا ولو كان حلالاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن من يفعل ذلك: (جعل فقره بين عينيه)، يعني أنه لن يرضي أبدًا مهما كسب وحقق، بل يحس دائماً أنه في جرى مستمر وفقر مستمر!
وفي حديث آخر يتوعد الله ابن آدم الذي ينسى الآخرة في لهاثه في طلب الدنيا بقوله: (سلطتُ عليك الدنيا تجرى فيها جرى الوحش فى البرية، ثم لا يصيبك منها إلا ما قد كتبته لك)، يعني أن يصحو الإنسان فينطلق فى الدنيا كأنه الأسد الجائع يذهب للبحث عن الطعام، فيجري ويلهث ولا يصيبه من الرزق في النهاية إلا ما قد كتبه الله عز وجل له. ولن يملأ أكثر من بطنه، أليس كذلك؟
إذن، قضية الآخرة قضية هامة لا ينبغي أن تغيب عن ذهن المؤمن. ولكن كيف نصل إلى التفكير في الآخرة؟ وكيف نستحضر الآخرة؟ يربط الشيخ التفكير في الآخرة بقضية اليقين فى الله سبحانه وتعالى، قائلاً أنه كلما زاد اليقين كلما زاد همك بالآخرة، فيوجز ذلك في حكمة يقول فيها:
(لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا وقد ظهرت كسفة الفناء عليها).
فالشيخ يربط تحقق اليقين بقضية تذكر الآخرة ورؤيتها كأنها حقيقة مشاهدة، والسؤال: كيف نصل إلى اليقين؟ والجواب في كتاب الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، فكلما عبدتَ الله عز وجل بكل أنواع العبادة، كلما ازداد اليقين فى قلبك، وكلما تذكرتَ الآخرة وكأنك تعيش فيها، وهكذا كان حال صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم حين كانوا يتدارسون ويتعبدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفى الحديث أن أحد الصحابة رضى الله عنهم قال عن أثر تلك العبادة: (كأننا نرى الجنة والنار رأي العين).
إذن قضية العيش فى جو الآخرة، تتعلق باليقين (لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها)، أي أنك لا تحتاج إلى الموت حتى تبدأ في معايشة الآخرة، بل تعيش في الآخرة وأنت في الدنيا وهذا أنفع وأولى قبل فوات الأوان، أليس كذلك؟
وهنا أيضًا أكرر أنه ليس معنى هذا أن ننعزل عن الدنيا ونترك الدنيا، فهذا فهم خاطئ يؤدي إلى ممارسة مغلوطة لقضية تذكر الآخرة، والتى لا ينبغي أن تعني نبذ الدنيا، بل هى مسألة قلبية وعبادة روحية. والفهم المتوازن يوازي بين الدنيا والآخرة، ويعنى أن تسعى في الدنيا وتذهب وتروح وتجيئ وتكسب، ولكن لابد أن يكون لك نصيب من العيش في الآخرة، وهو التفكير فى الآخرة (ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك).
ثم يقول الشيخ رحمه الله ورضى عنه: (ولرأيت الدنيا وقد ظهرت كسفة الفناء عليها). وكِسَفَة الفناء أي ثوب الفناء أو كسوة الفناء أو غطاء الفناء، وكأن الدنيا في حالة فناء مستمر. كما قال أحد الصالحين: (يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك). فيقول الشيخ أنك لو أيقنت بالآخرة لرأيت الدنيا تزول وتتلاشى أمامك، وفي هذا ما يزهدك فى الدنيا وفي ملذاتها ويقربك من الآخرة ومن العبادة، وهذا مطلوب لأننا كثيراً ما ننسى الآخرة وننسى الموت.
وقد رأي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة يمدحون رجلًا ويقولون هو كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف ذكره للموت؟)، أي هل يذكر الموت؟ قالوا: لا نعلم له ذكراً للموت، قال: (ليس هناك)، يعني هو ليس بهذه المنزلة العالية إن لم يكن يذكر الموت ومعروف بذكره للموت؛ لأن ذكر الموت هو الذي يجعلك تستعد للآخرة، وذكر الموت من قضايا اليقين.
وحينما نعيش مع القرآن بهذه الروح ونتذكر الآخرة، ينصلح الحال فى الدنيا؛ لأن ذكر الدنيا فقط والهم في الدنيا فقط هو فى الحقيقة ضياع للدنيا وللدين معاً، وأما إذا ذكر الإنسان الآخرة فهذا يصلح الدين ويصلح الدنيا، {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}.
ولا مانع من السعي للدنيا والفرح بالدنيا، على أن تكون الدنيا في أيدينا وليس في قلوبنا، وهذا هو التعريف الصحيح للزهد: أن تكون الدنيا في يدك والآخرة في قلبك. أما إذا كنت تعيش في الآخرة فقط وليس لك نصيب من الدنيا، فأنت أولاً مقصر في حق الدين والإسلام والمسلمين، وأنت ثانياً عرضة للفتنة لأنك زاهد في الدنيا لعدم قدرتك على تحصيلها، لا لرغبتك في ما عند الله في الآخرة.
نسأل الله تعالى أن نحقق هذا التوازن وأن يعيننا عليه، ونسأل الله عز وجل أن يذكرنا الآخرة وأن يعيننا على العمل لها، وأن ينجينا وإياكم من أهوالها برحمته ومنّه وفضله سبحانه.