يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“الخذْلانُ كُلُّ الخذْلانِ أَنْ تَتَفَرَّغَ مِنْ الشَّواغِلِ ثُمَّ لا تَتَوَجَّهَ إلَيْهِ، وَتَقِلَّ عَوائِقُكَ ثُمَّ لا تَرْحَلَ إلَيْهِ.”
ليس للرحلة إلى الله نهاية! وإنما هو طريق دائري، كلما ظننت أنك في نهايته، دار بك حتى تعود إلى ما بدأت به، وكأننا نطوف حول الكعبة، والعود أحمد وأعلى وأزكى إن شاء الله.
وهذه الـ (دورات) من سنن الله تعالى في خلقه كله، فالحياة على هذه الأرض دورة، وهي تحتوي على دورات ودورات متداخلة.
فدورة حياة الإنسان تبدأ من تكوّن النطفة إلى أن يبلغ الإنسان أشده ثم يموت ويُبعث في دورة أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}.
ومثلها دورة النبات على الأرض: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ولاحظ كلمة (كَذَلِكَ)، والتي تدل على أن دورة النبات شبيهة بدورة الإنسان.
بل إن دورات الكواكب والأقمار والنجوم في أفلاكها لا تخرج عن نفس القانون. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. فيولد الهلال –مثلاً- ثم ينمو حتى تكمل استدارته، ثم يعود: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وحتى المجتمعات والحضارات تمر بنفس الدورة، من الميلاد إلى بلوغ الأشد ثم إلى الزوال! { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. وهكذا كل دورات الحياة؛ منحنى صاعد ثم يهبط، شهيقاً وزفيراً.
والرحلة إلى الله تعالى لا تنقطع، وفي كل مرحلة من مراحل عمر الإنسان لابد من الاستمرار في الرحلة إلى الله. ولكن، تمر على العبد مراحل في حياته، المشاغل والعوائق فيها أقل من المراحل الأخرى. هنا يقول الشيخ في نهاية توجيهاته: (الخذْلانُ كُلُّ الخذْلانِ أَنْ تَتَفَرَّغَ مِنْ الشَّواغِلِ ثُمَّ لا تَتَوَجَّهَ إلَيْهِ، وَتَقِلَّ عَوائِقُكَ ثُمَّ لا تَرْحَلَ إلَيْهِ)، وهذا مصداق قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. فلابد للعبد أن يستثمر فترات الفراغ هذه لبدء الرحلة من جديد! قال صلى الله علية وسلم: (اغتنم خمس قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
وكما بدأنا هذه الرحلة بالرجاء في الله سبحانه: (من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل)، ننهيها بالرجاء فيه تعالى أن يتجاوز عن زلاتنا وعيوبنا وتقصيرنا، وأن يكافئنا من محض فضله وكرمه ورحمته، لا لشيء مما فعلناه، وإنما هو جهد المُقل، والله عز وجل هو الذي يبارك في العمل من فيض رحمته.
ثم نجدّد الهمة، ولكننا نعلم أن: (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار)، وأن المسلم عليه أن يسعى، ولكن ليس عليه إدراك النجاح، (أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك).
ونذكّر أنفسنا بالإخلاص: (الأعمال صورا قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها)، ونذكّر أنفسنا كذلك أن طريق إصلاح القلب هو التفكر في خلوة أو عزلة: (ما نفع القلب شيء مثل عزله يدخل بها ميدان فكرة).
وفي العزلة والاعتكاف، تغيب الأكوان والشهوات والغفلات والهفوات: (كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟). فعبادة التفكرهي طريق الإحسان.
ولابد دائماً أن يغتنم المسلم الوقت والعمر: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس)، وأن يبادر إلى الأعمال الصالحة، وأن يرجع إلى الله عز وجل في البدايات: (من علامات النجاح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته)، وهو ما يذكرنا بتصحيح نياتنا والإخلاص والاستخارة والعودة إلى الله عز وجل في بداية كل عمل.
ولا ينقطع كذلك اكتشاف واستكشاف المرء لعيوب نفسه، حتى يتخلى عن العيوب قبل أن يتحلى بالمكرمات: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب).
وأول عيب هو (الرضا عن النفس)، لأن (أصل كل معصية وغفلة وشهوة، وأصل كل طاعة وعفة ويقظة عدم الرضا منك عنها). والنفس البحّاثة عن عيوبها هي النفس اللوامة، وهي الصحبة الصالحة المطلوبة: (لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله. ربما كنت مسيئاً فأراك الإحسان منك صحبتك من هو أسوء منك حالاً). فتصحب دائما من هو أحسن منك حالاً، حتى لا تحس في نفسك الإحسان وتستمر في البحث عن عيوب النفس ولومها وتحسين العمل.
ولا يصح أن نترك الذكر حتى ولو أحسسنا بعدم حضور القلب: (لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، فربما نقلك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، {وما ذلك على بعزيز}).
ومن العيوب الخطيرة الطمع، وهو يؤدي إلى الذل بل والعبودية لغير الله والعياذ بالله: (ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع، وما قادك مثل الوهم. أنت حر مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع). الوهم يقودني إلى أن أظن أن الناس عندهم رزقي، وهو وهم، والأوْلَي أن أطمع فيما عند الله، فأذل نفسي له لا لغيره. والحرية هي أن أكون عبداً لله لا سواه.
ثم: (من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الامتحان)، مصداقاً لقوله تعالى: {ولقد أخذناهم في العذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}. (ومن لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها)، مصداقاً لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.
ولابد من حسن الفهم عن الله تعالى في عطائه وفي منعه: (ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك)، مصداقاً لقوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن وأما ابتلاه فقدر عليه رزقه فقال رب أهانن. كلا}، فرب شيء تراه منعاً وهو عطاء، أو تراه عطاءً وهو منع.
و(إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه)، (فربما فتح لك باب الطاعة فما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك الذنب فكان سبب للوصول. معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً).
(ومتى أوحشك من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس له)، وهذا ليس بمنع، لأنه قد تكون الوحشة والانعزال والسفر وغير ذلك – تكون فتحاً عليك، ومنحة وليست محنة.
والدعاء كذلك لا ينبغي أن ينقطع أبداً، (ومتى أطلق لسانك بالطلب فاعلم أنه يريد أن يعطيك). وإجابة الدعاء تكون في الدنيا أو في الآخرة.
والله عز وجل: (لما علم منك وجود الملل لون لك الطاعات، وعلم ما فيك من الشره فحجرها عليك في بعض الأوقات)، فتتجاوز عن الملل بأن تلون الطاعات، فتصلى وتتصدق وتصوم وهكذا.
وفي كل هذه العبادات وفي الصلاة هناك مراتب للأداء، (فما كل مصلٍ مقيم). ومراتب الخشوع هي ذل وانكسار، ثم إجلال وهيبة، ثم فرح وسرور، أي إسلام وإيمان وإحسان.
وإذا تذللنا وافتقرنا واضطررنا، فإن هذا يسرع إلينا بالإجابة وبالمواهب كلها. (ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار)، مصداقاً لقوله تعالى: {أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه}.
ثم: (لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا وقد ظهرت كسفة الفناء عليها)، والغفلة عن ذكر الموت من العيوب التي ينبغي للمسلم أن يتخلص منها؛ وإنما ينبغي أن يترقب الآخرة.
والمؤمن إذا مُدح استحيا من الله تعالى أن يثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه: (فالناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك، لما تعلمه منها، فاجهل الخلق من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس). فلا تترك اليقين للظن.
ومن المهم الأأموازنة بين الرجاء والخوف، حتى لا ينقلب الرجاء إلى أمن من مكر الله سبحانه وتعالى، وحتى لا ينقلب الخوف إلى يأس من رحمة الله سبحانه تعالى. و(إن أردت أن ينفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك، وإن أردت أن ينفتح لك باب الخوف فاشهد ما منك إليه).
و(من علامات اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات)، فلابد أن يرتب المسلم الأولويات ترتيباً جيداً، فيقوم بالفرائض قبل أن يقوم بالنوافل، وأن يوظف الجهد والمال والوقت في الواجبات والأركان، ثم بعد ذلك ينتقل إلى التحسينيات والنوافل.
و(كل كلام يبرز عليه كسوة القلب الذي منه برز، فمن أذن له في التعبير فهمت في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته). والنبي صلى الله عليه وسلم بكلمات جامعات كان يغير الدنيا، لأنه كلام أتى من قلب عامر سليم.
والرضى والقناعة كنز، لأن: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى)، و(من تمام نعمته عليك أن يرزقك ما يكفيك، وأن يمنعك ما يطغيك، فإذا قل ما تفرح به قل ما تحزن عليه). {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. والتواضع كنز، ولكن (ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأي أنه فوق ما صنع، وإنما المتواضع الذي إذا تواضع رأي أنه دون ما صنع).
وأخيراً، خير ما يعطيك ربك عمراً مباركاً: (رُب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورُب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده، ومن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة). وبركة العمر في الأماكن المباركة والأوقات المباركة، وفي بركة إخلاص القصد لله تعالى.
هذا، وإن إصلاح أخلاقنا مع الله سبحانه وتعالى، سوف يصلح الكثير والكثير من أخلاقنا مع الناس، فإذا تخلصنا من الطمع وأحسنّا الرجاء والتوكل والخوف من الله تعالى وحده، فستنصلح أخلاقنا مع الناس، وهذا ما نحتاجه. نحتاج أن نعمر ما بيننا وبين الله، حتى يصلح الله حال أمتنا كلها، وهذه سنة الله تعالى في تغيير الأحوال: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
نسأل الله عز وجل أن تكون هذه الكلمات المتواضعات موضع قبول وتلقى حسن منه سبحانه، وأن لا يؤاخذنا بها يوم القيامة، وإنما أن يكون هذا من العلم النافع.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً تنفعنا به يا رب العالمين. وصلى اللهم على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.