إيطاليا من أهم الدول التي ينبغي أن تؤدي دوراً رئيساً في الحوار والتعاون الإسلامي مع أوروبا والغرب، وهذا في رأيي ليس بسبب الفاتيكان ولكن بسبب النخبة المثقفة الإيطالية واستعدادها المنفتح لتفهم الإسلام والتفاعل مع الفكر الإسلامي. وقد أطلقت هذا الأسبوع آخر كتاب لي مترجم باللغة الإيطالية تحت عنوان: محاضرات في الدولة المدنية: نحو مرحلة ما بعد الإسلاميين وما بعد العلمانيين، والذي ترجمته الأخت الدكتورة صابرينا ليا وطبعته مؤسسة تواصل بإيطاليا، وقد كان ذلك في جامعة روما – سابينزا، وهي بالمناسبة أقدم وأكبر جامعة في أوروبا (تأسست عام 1303 وبها 125 ألف طالب). وقد سعدت بتقديم رئيس الجامعة لي وترحيب الأساتذة وعلى رأسهم الأستاذة الدكتورة ألكسندرا مينيولي أستاذة حقوق الإنسان هناك. وكانت النقطة الرئيسة في محاضرتي هي أهمية تطوير الفكر الثوري الديني حتى يسهم المسلمون وكل مناصري العدالة في الحراك العالمي الحالي ضد الاستبداد واحتكار الواحد في المائة في الصور الشرقية والغربية وفي التجليات السياسية والاقتصادية وفي المؤسسات الدينية كذلك، وقلت إن الفكر الإسلامي والفكر العلماني في صورتيهما التقليديتين قد ساهما في تعزيز الاستبداد بكل أشكاله تلك بدلاً من القضاء عليه. وقد سعدت بالحوار والاتفاق على التعاون مع عدد من الأساتذة وطلبة الدراسات العليا من الإيطاليين.
قمت بزيارة مدينة الفاتيكان وإلقاء محاضرة في فرع جامعة لايولا شيكاغو الكاثوليكية اليسوعية في روما، وقد هالني التناقض في نفس اليوم بين مبادئ الكاثوليكية اليسوعية التي على رأسها “الزهد” و”العفة” و”دعم العدالة” كما يقسمون على ذلك في مؤسساتهم، وبين ما رأيته في (قصر الفاتيكان) ذي الألف وأربعمائة غرفة من الترف العجيب، وحوله تسعة أميال كاملة من الأقبية المليئة بالأصنام الأغريقية والرومانية، وكنوز عجيبة من الذهب والماس، فضلاً عن لوحات مايكل أنجلو التي لا يسعني الأدب أن أصفها إلا بأنها صورت كل ما هو مقدس في أشكال أبعد ما تكون عن قيم الدين والعفاف. وقد نظمت مؤسسة تواصل للحوار بإيطاليا محاضرتي هناك حول سيادة القانون في الإسلام، وفيها ذكرت أن سيادة القانون قيمة إسلامية مهمة ولكنها ليس لها معنى إذا كان القانون نفسه أداة لشرعنة الظلم والفساد كما نرى في الشرق والغرب.
المسلمون في إيطاليا وفي أوروبا عموماً يخاطبون أنفسهم فقط ولا يتعاملون تقريبا مع المجتمع الأوسع إلا إذا كان الأمر متعلقا بشكوى في شأن (إسلامي) من شؤون السياسة والطعام وما إلى ذلك. أما الشأن (الإسلامي أيضا) من شؤون الصالح العام أو العدالة الاجتماعية أو حتى مسألة دور الدين في المجتمع وأهمية القيم الدينية والإيمانية – فالمسلمون شبه غائبين عن هذه المجالات. وقد قضيت آخر يوم لي في إيطاليا بين جامعة روما (فرع تور فيرغاتا) وبين الجامعة الدولية لدراسات السياسات والمجتمع (لويس اختصارا)، وفوجئت بالتشابه بل التطابق في الرؤى حول قضايا العدالة وبناء الجسور المجتمعية بل ودور الدين في تطوير المجتمعات العلمانية نحو مزيد من الاستيعاب للقيم الدينية الحقيقية. الفكر الإسلامي لا يمكن أن يستمر فكراً فلسفيا محضا، وإنما ينبغي له أن يخوض غمار الحراك المجتمعي والتغيير الحقيقي من أسفل لأعلى هرم السلطة في بلاد الدنيا شرقا وغربا. نحتاج إلى حلف فضول جديد مثل الحلف الذي شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة.