د. جاسر عودة
الشرع في مسألة الحدود قطعي ومعروف، والاختلافات والاجتهادات في بعض التفاصيل معروفة، ولكنّ تحويل أحكام شرعية كأحكام الحدود إلى قوانين يعمل بها في دول وطنية متعددة الأديان هي مسألة أخرى، ويتوقف على الآليات الدستورية والتشريعية التي تسمح بولادة هذا القانون، وتتوقف –وهو الأهم- على توافق مجتمعي ساحق على ذلك، وهو ما لا يفترضه أحد في هذه المسألة اليوم.
والحد في اللغة هو الفاصل بين شيئين وهو أقصى المدى، يقال حد المدينة أو سور المدينة أي: أقصاها، وكذلك هي الحدود الشرعية، فهي أقصى المدى في العقوبات الجنائية الإسلامية وليست هي كل ما هو متاح لها، أي أنها -بالتعبير المعاصر- عقوبات استثنائية في حالات طارئة خاصة وليست جرائم عادية.
والحد في الشريعة لابد أن يكون منصوصًا عليه بنصوص صريحة قطعية، ولابد أن يكون مقدّرًا أي أن تكون العقوبة مقدرة وواضحة في أرقام وأشكال واضحة، وإلا فإن العقوبة تصبح تعزيرًا –كما ذكر من قبل- فمثلاً قضية الخمر أو عقوبة شرب الخمر في الإسلام هو تعزير وليست حدًا كما يقول البعض، وذلك لأن العقوبة المنصوصة على الخمر ليس قطعية وليست مقدرة، والنبي (صلى الله عليه وسلم) طبق عقوبات مختلفة على شرب الخمر -أو بتعبير أدق على السّكر في العلن-، وهي بالتالي شرعًا متروكة للمشرع والمجتهد المعاصر.
والحدود في الشريعة هي على جرائم محددة معروفة، وهي كالتالي:
- السرقة: قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ).[1]
- الزنا: قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [2]، وقال أيضًا: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)[3]، وهذا عن الزنا، وقال كذلك: (وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً) .[4]
- الحرابة: أي الإفساد في الأرض وقطع الطريق: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .[5]
- القتل والجروح: وهو على أنواع: القتل العمد والقتل شبه العمد والقتل الخطأ والجروح العمد والجروح الخطأ، وهناك أنواع وأشكال مختلفة ومعروفة في الشريعة. من ذلك مثلا القصاص في القتل بمعنى النفس بالنفس، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[6]، وقال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).[7]
- القذف: وهو التشهير عن طريق الرمي بالزنا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) .[8]
وهناك ما يسمى “حد الردة”، وهو القتل عقوبة على من يغير دينه من الإسلام إلى غيره، وقد ألحقها كثير من العلماء بالحدود وهي ليست كذلك![9] ويأتي لاحقًا مزيد من الحديث عن ذلك الموضوع.
هناك سؤالان مهمان هنا:
- هل نطبق الحدود في دولة “مدنية”؟
- إذا كان بعض الإسلاميين ينادون بتطبيق الحدود اليوم، فما هي الدراسات والاجتهادات اللازمة قبل التطبيق في هذا العصر؟
الإجابة على السؤال الأول: هل نطبق الحدود في دولة مدنية؟ هي: نعم ولكن بشروط هذه الدولة المدنية نفسها لا افتئاتاً عليها. وهذا يعني أنها تمر كغيرها من العقوبات على القنوات المشروعة ثم لابد أن يتفق عليها الناس على أوسع نطاق وليس فقط على نطاق الهيئة التشريعية، نظراً لبعد الشقة بين المجتمعات المعاصرة والحدود الشرعية.
ولكن هناك إشكالية دستورية حقيقية تحول دون تطبيق الحدود في عصرنا، ألا وهي أن الشرط الأول التي تشترطه الدول الحديثة في دساتيرها أن تسوي العقوبات المقننة بين المواطنين! وهذا يطرح إشكالية حقيقية إن اقترح مقترح أن يعاقب غير المسلمين على ذنوب ليست ذنوباً في شريعتهم. وإذا اقترح مقترح آخر أن يطبق الحد على المسلمين فقط فهذه أيضاً فيه إشكالية مركبة؛ لأن هذا أولاً عند الكثيرين سوف يتنافى مع التسوية القضائية والقانونية بين المواطنين، وهذا أيضاً في الواقع المعاصر مظنة فتنة بين المسلمين في دينهم لأنه يفتح بابا يرتد المسلم عن دينه إذا رأى أنه سيعفى من الحد إن كان غير مسلم.
وهذا لا يغير من الشريعة الإسلامية في شيء، ولكن هناك فارق كما ذكرنا بين الشريعة والقانون أي بين ما هو شرع لله سبحانه وتعالى لا يختلف عليه أحد، وبين ما يمكن أن نحوله من هذا الشرع إلى لقوانين تطبق في الواقع كما هو.
أما جواب السؤال الثاني: فإنه لابد قبل التفكير أصلاً في تطبيق الحدود في عصرنا من دراسة للاجتهادات الجديدة في التطبيق، والاجتهاد في الشرع على أي حال فرض من الفروض لا يصح التخلف عنه في أي عصر.
أول هذه الاجتهادات القديمة الحديثة هو سقوط الحد بتوبة الجاني، وهو الذي يحقق المقصود من الحد أصلاً. فهناك شقان أو حقان في كل جريمة من هذه الجرائم أولهما حق البشر، وفي هذه الحق لابد أن تعود الحقوق لأصحابها فالسرقة مثلاً لابد فيها أن تعود الأشياء المسروقة إلى أصحابها، والحق الثاني وهو حق الله سبحانه وتعالى أي الذنب بين العبد وربه.
يقول تعالى عن المحاربين: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إلَّا الّذِين تَابُوا)[10]، فلم يختلف عالم على أن حد الحرابة يسقط بالتوبة كما تنص الآية، ولكن اختلف العلماء في التالي: هل تقاس هذه التوبة في حد الحرابة على التوبة في غيرها من الحدود؟ وإذا كان الله عز وجل يقبل توبة التائب في حد الحرابة وهو يتعلق بأعظم الجرائم، فهل نقبل توبة التائب في حدود أخرى؟ والإجابة المناسبة لهذا العصر والاجتهاد الأولى بالمقصود من مسألة الحدود وهو الردع للمجرم، هي[11]: نعم! وهذه التوبة إذا ثبتت وأيدتها القرائن فلابد أن نقبلها -كقاعدة عامة طبعًا- وهذا بعد عودة الحقوق لأصحابها على أي حال.
ورأي الدكتور توفيق الشاوي رأي مؤيد لهذا الاتجاه، فكتب يقول:[12]
“من الواضح أن التشجيع على التوبة من أهم ما عنيت به السنة النبوية، حتى إنها وصلت إلى تقديم النصح للمتهم المعترف بالعدول عن اعترافه والتراجع عنه ليكون ذلك دليلاً على توبته. وهذا التوسع في التوبة يتجاهله كثيرون … ذلك أنجع في مكافحة الجريمة وإصلاح الجاني والمجتمع من فرض العقوبة المقررة. إن إعلان المتهم التوبة وجديته فيها يعد من الشبهات التي يجب على القاضي أن يجعلها سببًا لمنع توقيع العقوبة القصوى حدًا أو قصاصًا … التوبة لا تعفي من أداء الحقوق المدنية … فترة الاختبار (probation) يجب عدها من وسائل تشجيع المتهمين على التوبة، ولذلك فهي تتفق تمامًا مع مقاصد شريعتنا وأصولها…”.
ولأستاذنا الدكتور محمد سليم العوا رأي مؤيد لما قيل أيضًا، فقد كتب يقول: [13]
“حجج القائلين بسقوط الحدود بالتوبة –أو إعفاء التائب من العقوبة- أرجح من حجج القائلين بالرأي الآخر … ولا يعترض على هذا الرأي بأنه يفتح الباب لعدم العقاب على الجرائم بادعاء كل جان توبته مما اقترفت يداه، لأننا حين نقول باعتبار التوبة عذرًا معفيًا من العقاب لا نقول بمنع القاضي من وزن هذه التوبة بميزان الواقع، ولا نحول بينه وبين تقديرها – من حيث الصحة أو الادعاء …”.
والاجتهاد الثاني المهم هو الاجتهاد المعاصر في تنزيل قاعدة “درء الحدود بالشبهات” في الواقع المعاصر. فإننا لا نستطع أن نقترح تطبيق حد السرقة مثلاً والمجتمع مليء بالشبهات “الشرعية” التي تحول دون هذا التطبيق أن يكون عادلاً وأن يكون إسلاميًا. فمصر بلد تفشى فيه الجوع والفقر والحاجة والجهل، وليس من الإسلام في شيء أن نحدّ الناس في هذه الظروف، وهذه شبهة عامة تحتم علينا أن نعلّق هذا الحد مثلاً إلى حين، ولو وافق الناس على تطبيقه. [14]
وقبل المناداة بإقامة حد السرقة لابد –شرعًا- من تحسين مستوى المعيشة بشكل عام والحد من مشاكل الفقر والجوع والحاجة الشديدة، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد “علّق حدّ السرقة عام المجاعة”، ولابد كذلك قبل المناداة بتطبيق حد الزنا لابد [15]–شرعًا- أن نعلّم الناس ونفهمهم، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قد “رد الحدّ عن الأعجمية التي لا تفقه”[16]، فينبغي أن نراعي وأن لا ننادي بهذا الحد قبل أن نوفر العلم للناس بما يحل وما يحرم وقبل أن نوفر الظروف التي بها يتزوج الشباب ويتحصنون.
هناك أمران أخيران في قضية الاجتهاد المعاصر في الحدود يتعلقان بقضية الرجم وقضية الردة.
أما عقوبة الرجم، فإن أغلب العلماء على مشروعية الرجم للزاني المحصن أي المتزوج، ولكن هناك رأي مفاده أن الرجم هو من شريعة اليهود التي نسخها الإسلام وليس من شريعة الإسلام، وهناك رأي آخر يراه تعزيرًا يعود للحاكم وليس هو الأصل. وهما رأيان اجتهاديان جديران بالاعتبار ذكرهما الشيخ يوسف القرضاوي وغيره. كتب القرضاوي يقول (وأنقله هنا للفائدة): [17]
“في هذه الندوة (في ليبيا عام 1972م) فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟ هذا الرأي يتعلق بقضية “الرجم” للمحصن في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: “فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب” [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” [النور: 2]. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم: هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه. وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح: “البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة”. قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال… ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية… وقلت في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم”!
وللباحث الشيخ عصام تليمة بحث واف في هذه القضية، ذكر فيه:
“هناك من قال بأن الرجم تعزير مفوض إلى الحاكم حيث ما يرى من المصلحة، فمنهم من قال ذلك مفصلا قوله وأدلته، وشارحا وجهة نظره، ذاكرا ما استدل به من أدلة، ومن هؤلاء: عبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد البنا، ومصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، ومحمد سعاد جلال. ومنهم من قال بنفس رأيهم، لكنه نقل عنه نقلا، دون نقل لأدلته، إما لأنه قال رأيه شفهيا، وأسر به إلى أحد تلامذته، أو في جلسة لم تدون وقائع النقاش فيها، ومن هؤلاء: الشيخ محمود شلتوت ، والشيخ علي الخفيف ، والشيخ علي حسب الله”. [18]
والأمر الثاني هنا هو قضية الردة وهي عقوبة في الحقيقة أسيء استغلالها لتصفية حسابات سياسية قديمًا وحديثًا، ولابد فيها أن نفرق بين المرتد في نفسه فقط الذي يرى أن يغير دينه وهو ذنب كبير له عقوبة من الله تعالى في الآخرة ولكنه يدخل تحت عموم قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”[19]، وبين الذي يجمع مع ذلك جرائم أخرى كازدراء الأديان أو الحرب على الإسلام أو التشهير بالمسلمين، وعندها لابد أن يحاسب هذا الإنسان لأنه يجمع مع ردته جرائم أخرى وليس الردة كجريمة مدنية في حد ذاتها، وهذا أيضا اجتهاد معاصر مهم من أفضل ما كُتب فيه في رأيي كتاب الشيخ طه جابر العلواني، إذ كتب يقول:
“تناولت فيه الأحاديث والآثار والسنن القوليَّة ذات العلاقة بالموضوع، وقد حاولت دراستها ومناقشتها لبيان أنّ عدم وجود حدٍّ شرعيّ للردّة لم يرد ما يعارضه من السنّة القوليّة -أيضاً- إضافة إلى ما كنّا قد أثبتناه من عدم وجود حدٍّ في السنّة الفعليَّة وبذلك تتضافر الأدلة -كلّها- على نفي الدليل على وجود حدٍّ شرعيّ منصوص عليه لجريمة تغيُّر الاعتقاد الدينيّ أو تغيُّر التديُّن من غير انضمام أيّ فعل جرميّ آخر إليه. فلا وجود لهذا الحدّ في القرآن المجيد وهو المصدر المنشئ الأوحد لأحكام الشريعة … ولم نجد واقعة واحدة من وقائع عصر النبوّة تشير إلى ما يمكن أن يقوم دليلاً على قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق عقوبة دنيويّة ضدّ من يغيّرون دينهم، مع ثبوت ردّة عناصر كثيرة عن الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم … وقد تبيّن أن الفقهاء كانوا يعالجون جريمة غير التي نعالجها، إذ كانوا يناقشون جريمة مركّبة اختلط فيها السياسيّ والقانونيّ والاجتماعيّ، بحيث كان تغيير المرتدّ دينه أو تديّنه نتيجةً طبيعيّة لتغيير موقفه من الأمّة والجماعة والمجتمع والقيادة السياسيّة والنظم التي تتبنّاها الجماعة، وتغيير الانتماء والولاء تغييراً تامّاً. كذلك ناقشنا دعوى الإجماع وثبت لنا وأثبتنا أنّه لم يكن هناك إجماع على وجود حدٍّ أو عقوبة شرعيّة ثابتة بالقرآن مبيَّنة بالسنّة للردّة بالمفهوم الذي أوضحنا. وبذلك ثبت أن الإنسان -في الإسلام- يملك حريّة اختيار الدين الذي يتديّن لله به وهي حريّة ذاتيّة ائتمنه الله -تعالى- عليها؛ ولذلك كانت هذه الحريّة مناط المسئوليّة الإنسانيّة، فالمكره خارج من دائرة التكليف لا يحمل مسئوليّة ما يكره عليه أو يلجأ إلى فعله مهما كان، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وحين تنتقص حريّته في الاختيار تنقص مسئوليّاته بقدر ما ينقص من حريّته. [20]“
وأخيرًا، لابد في الاجتهاد المعاصر من اعتبار التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية ايا كانت في أي مجتمع فتطبيق الأحكام الكبرى في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم كان متدرجًا، فقد نزلت حرمة الخمر على مراحل، ونزل تحريم الربا على مراحل وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق الأحكام الكبرى ونقل المجتمع من حالة إلى حالة ومن خلق إلى خلق لابد من التدرج.
ولا يملك عالم أن يخرج هذه العقوبات التي اتفق عليها العلماء من الشريعة لأنها في الحقيقة جزء لا يتجزأ من شريعة الله سبحانه وتعالى، ولكن ينبغي ترشيد الدعوات التي لا تراعي طبيعة الدولة المدنية المعاصرة من جانب، ولا تأخذ الاجتهادات المعاصرة بعين الاعتبار من جانب آخر، لأن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية ليست هي المقصودة من التشريع.
مسألة أن يتعارض التوافق الوطني على الدولة المدنية مع أحكام الشريعة
نجد في تراثنا الفقهي والفكري الإسلامي عددًا كبيرًا من القضايا العامة التي اعتبرها العلماء قضايا لم تأتي الشريعة فيها بتحديد نهائي لموقف معين منها أو حكم شرعي حتمي ثابت، ولهذا فقد قالوا في هذه القضايا أنها (تعود للحاكم) أو (يرجع الأمر في ذلك للأمير) أو (حسب ما يرى الإمام)، أو غير ذلك من المصطلحات التي تعود بالحكم في هذه الأمور إلى الحاكم أو الخليفة أو الأمير أو السلطان. والتراث الإسلامي في السياسة الشرعية كثيرًا ما يخول الحاكم أو السلطان أو الخليفة بسلطات لتقرير ما يرى في مسألة ما منفردًا دون الرجوع إلى الناس أو (أن يستبد بالأمر) حسب تعبير الماوردي[21].
بل ان الرأي الفقهي السائد والغالب في مسألة: هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ هو أن الشورى معلمة وليست ملزمة، أي أن على الحاكم أن يستشير الناس تطبيقًا للآية الكريمة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [22]، والآية الأخرى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) [23]، ولكن الرأي السائد في الفقه هو أن الحاكم بعد هذه الشورى ليس عليه أن يلتزم بنتائجها وإنما هي فقط لإعلامه بآراء الناس، ثم هو يتخذ من القرارات ما يشاء! ويستدل العلماء ببعض أفعال الخلفاء بعد رسول الله -رضي الله عنهم- دليلا على ذلك.
والحق أن تراثنا في السياسة الشرعية في هذه المسألة آن له أن تحدث فيه نقلة مهمة وأن يتجدد وأن يتغير من (ما يعود إلى الحاكم) إلى (ما يعود إلى الأمة)، وبين (ما يرجع الأمر فيه للحاكم) إلى (ما يرجع الأمر فيه للأمة)، وبين (حسب ما يرى الحاكم) إلى (حسب ما ترى الأمة)، وأن يتغير الحكم اليوم في قضية الشورى إلى أن تكون الشورى ملزمة وليست معلمة، أي أنه يجب ويفرض على الحاكم أن يأخذ برأي الشورى. ذلك أن الله عز وجل حين قال (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) قد قصد بهذه الآية أن يستفيد الحاكم من الرأي الجماعي، وأن يحترم رأي الناس، ومعنى احترام رأي الناس اليوم هو النزول عليه!
ولو كانت العصور الماضية قد سمحت ظروفها والحياة البسيطة البدائية آنذاك بأن يكون الأمير على حق ومستشاروه كلهم قد جانبهم الصواب، فإن تعقد الحياة اليوم، والخوف من الوقوع في الاستبداد والديكتاتورية، وابتناء الدولة المدنية أصلاً على سلطة الشعب – كل هذا يوجب أن تكون الشورى ملزمة وأن تنتقل الأحكام المذكورة والسلطات المذكورة من “الحاكم” إلى “الأمة” وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات ومصدر الشرعية.
وعودة الأمور للأمة يمكن أن تتم عن طريق وسائل كثيرة وليس شرطًا أن تتم عن طريق اختيار (أهل الحل والعقد) كما هي الطريقة القديمة، أي مجموعة من الوجهاء والعلماء يختارهم الأمير لكي يعاونوه ويشيروا عليه، بل يمكن أن تتم اليوم العودة للأمة عن طريق العودة إلى (المشرِّع) كما يعرفه الدستور في الدولة وهذا المشرع يتمثل في مجلس شعب أو سمّه برلمانا أو سلطة تشريعية أو هيئة شورية أي كانت، ولكنها هيئة منتخبة من الناس تمثلهم على اختلاف طوائفهم وهوياتهم وفئاتهم ومساحاتهم الجغرافية، أو أن تتم حسب المسألة المطروحة على الناس عن طريق العودة إلى هذه الهيئات المنتخبة عن طريق لجان متخصصة تنبثق عنها ويوكل لها البحث والدراسة والقرار في الأمور المتخصصة.
وأحيانًا ما يكون الأمر جللاً ويتطلب إلى أن يعود الممثلون عن الأمة إلى أمر الأمة عن طريق استفتاء مباشر للناس وذلك في القضايا المصيرية التي سوف تؤثر جذريا في حياتهم وينبغي أن يؤخذ فيها رأيهم. وهكذا يمكن أن يعود الأمر إلى الأمة وأن ننزل كلنا على رأي الأمة.
وأما من يقول إن العودة إلى الأمة ينبغي أن تكون مشروطة بأن “لا تخالف الأمة الشريعة”، أو أن “لا تحل الأمة الحرام أو تحرم الحلال”، فهذا الشرط مردود عليه بعدة أمور، أولها: أن تقرير “هل خالفت الأمة الشريعة؟” لابد أن يعود إلى هيئة أو إلى فرد هو أعلى من الهيئات التشريعية نفسها التي وكلت لها الأمة القرار، وهذا يؤول بنا إلى ولاية الفقيه، أليس كذلك! وولاية الفقيه نظام يعود إلى رأي فرد معين أو مجموعة معينة لمجرد أن عندهم شهادات علمية معينة في علوم الشريعة تحديداً، ثم يضعهم فوق الأمة وفوق هيئاتها التشريعية!
والحق أن قضية أن “تحلل الأمة الحرام أو تحلل الحرام” ليست دقيقة إن كان الحديث عن المسائل السياسية، لأن القرارات السياسية و”السياسات” لا تخضع للنصوص الشرعية بشكل مباشر ولو ورد فيها نصوص شرعية.
أما إن كان الحديث هو عن مسائل دينية يدعي البعض أنها قد تحولت من حرام إلى حلال أو حرام إلى حلال وهي أمور ليست قطعية في الدين بل هي اجتهادات تختلف فيها الأنظار، فلابد أن يحترم الجميع رأي الأمة وأن الأمة يحق لها أن تختار في الأمور الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار.
ثم إننا ينبغي أن نفرق بين التحليل والتحريم وبين التشريع وعدم التشريع، لأنه ليس كل ما هو حلال في شرع الله ينبغي أن يكون جائزًا بالقانون، وليس كل ما هو حرام في شرع الله ينبغي أن يجرّم في القانون، وليس كل ذنب جريمة – كما سيأتي في فصل لاحق.
وأخيرًا: حتى ولو فرضنا أن الأمة أو المجلس التشريعي سوف يقرر أمرًا يختلف عن أو يتناقض مع المعلوم من دين الله بالضرورة فلا يمكن أن نجبر الناس على الحق: (فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[24]، ولكنّ كل التصورات الواقعية تشير إلى أن هذا الاحتمال من المستبعد بالمرة حدوثه. وحتى لو حدث وخالفت جموع الأمة الشريعة فماذا نفعل؟ ليس أمام الذي يظن أن الأمة حرمت حلالاً أو حللت حرامًا إلا أن يطعن دستوريًا في هذا، أي ليس له إلا أن يرد الأمر الذي صدر من خلال النظام نفسه. وهكذا تتثبت معالم النظام المدني الدستوري المنشود، وتتثبت سلطة الأمة، ونتجنب الاستبداد، وهكذا يمكن للحاكم أن يكون خادمًا للشعب وأن تكون سلطاته تنفيذية بحتة، وهو أساس في الدولة المدنية المعاصرة.
[1] المائدة 38
[2] النور 2
[3] النساء 15
[4] النساء 16
[5] المائدة 33
[6] المائدة 45
[7] البقرة 179
[8] النور 4
[9] راجع كتابان مهمان لأستاذين لي صدرا مؤخرا في هذا الموضوع: يوسف القرضاوي، جريمة الردة وعقوبة المرتد، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 2005م، وطه جابر العلواني، لا إكراه في الدين: دراسة في إشكاية الردة والمرتدين، مكتبة الشروق الدولية, القاهرة، 2003م.
[10] المائدة 33
[11] راجع عرض لآراء المذاهب المختلفة في: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط10، 1989 م – فصل مسقطات الحد.
[12] راجع رأي الدكتور توفيق الشاوي في: توفيق الشاوي، الموسوعة العصرية في الفقه الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة، القاهرة، الشروق ط1، 2001 م – فصل الشروع والاشتراك والتوبة.
[13] راجع رأي الدكتور العوا في: محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، دار نهضة مصر، 2006م.
[14] راجع رأي الدكتور طارق رمضان في: Ramadan, Tariq, “Stop in the Name of Humanity.” Globe and Mail (London) Wednesday, March 30, 2005.
[15] راجع: محمد البلتاجي، منهج عمر بن الخطاب في التشريع: دراسة مستوعبة لفقه عمر وتنظيماته. القاهرة: دار السلام، الطبعة الأولى، 2002 م، ص 190.
[16] نفس المصدر السابق.
[17] راجع مذكرات الشيخ القرضاوي: ابن القرية والكتّاب، في www.qaradawi.net.
[18] نسخة إلكترونية من الباحث. راجع: www.leadersta.com
[19] البقرة 256، ونفي النفي معنى أقوى من الإثبات، أي أن تعبير نفي الإكراه في الدين أقوى من تعبير الحرية الدينية.
[20] راجع موقع الشيخ طه جبر العلواني: www.alwani.net/books.php
[21] الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، ص100، دار الفكر، ب ت.
[22] الشورى 38
[23] آل عمران 159
[24] يونس 99