د. جاسر عودة
ينبغي أن نفرق في تعريف “الدولة المدنية” بين المبادئ القيمية التي يتفق عليها الجميع والتي ينبغي أن تدخل في تعريف الدولة نفسها وخصائصها المميزة لها، وبين الأيديولوجيات السياسية المختلفة -بما فيها الأيديولوجية الإسلامية- والتي ينبغي أن تكون كلها فاعلة ومسهمة في تيارات “الدولة المدنية” المنشودة ولكن لا يصح أن يحتكر أي منها تعريف الدولة نفسها أو خصائصها الدستورية الوطنية المميزة لها.
ورغم أنني لست من أهل العلوم السياسية، وهو تخصص دقيق له أهله وله احترامه، إلا أنني أطرح هنا أفكاراً في موضوع طبيعة الدولة بناء على تخصصي في مقاصد الشريعة، وتخصصي في فلسفة المنظومات، وتطبيقي منذ فترة لهذين العلمين –على المستوى الأكاديمي- على موضوع السياسات العامة، راجياً بذلك أن أقدم شيئاً مفيداً إن شاء الله في معالجة جزء من الإشكالية المنهجية في تعريف “الدولة المدنية” في واقعنا المعاصر ومن منظور إسلامي، على أن يغفر القارئ الكريم لي عُجْمة في لغة العلوم السياسية من كلامي في معرض الحديث عن مصطلحات السياسة.
القضايا المعقدة ذات الأبعاد المتعددة في عصرنا تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المقاربات المتعددة التخصصات والمتنوعة المنهجيات، وذلك حتى يكمل بعضها بعضاً وتتكامل أبعاد الموضوع وجوانب البحث. والحق أن تقسيم العلم المعاصر نفسه إلى تخصصات أكاديمية ومهنية هو وسيلة للتعلم والتعليم، ولكنه لا ينبغي أن يضع قيوداً احتكارية على الإبداع الفكري، لأن الأصل في البحث والفكر هو تعددية التخصصات ووجهات النظر وزوايا الرؤية.
وقد ظهر مؤخراً خلاف حاد حول تحديد مفهوم الدولة المدنية في ما انتشر من خطاب سياسي وشعبي عام في سياق “الربيع العربي”، واحتدم النقاش من خلاله حول طبيعة الدولة الوطنية المعاصرة نفسها، وكان ذلك على عدة صور وتعريفات، فقال بعضهم إن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، وقال آخرون أنها هي الدولة الليبرالية التي تركز على حريات وحقوق المواطنين كأفراد، وقال آخرون إنها الدولة التي يحكمها مدنيون أي في مقابل الدولة العسكرية التي يحكمها قادة الجيش، وقال آخرون إنها هي الدولة الوطنية التي يستوي فيها المواطنون أمام القانون، وقال آخرون إنها ليست الدولة الدينية الثيوقراطية التي يحكمها رجال الدين، وقال آخرون إن الدولة المدنية هي نفسها “الدولة الإسلامية” في صورتها الصحيحة منذ عهد الرسالة وميثاق المدينة [1].
ورغم عدم وجود تعريف مستقر تاريخياً وفلسفياً، إلا أن المصطلح “الدولة المدنية” يبدو لي كفرصة ممتازة لإحداث نوع من التوافق المجتمعي والأرضية المشتركة بين كل الاتجاهات والإيديولوحيات المتصارعة المذكورة، توافق على شكل الدولة المنشود وعلى قيم يمكن أن نسميها جميعاً “قيم مدنية” تحكم الدولة وعملها وسياساتها، وهذه القيم قد يأتي لها “الإسلامي” من منظور مقاصد الشريعة كما سيأتي البيان، ويأتي لها المسيحي واليهودي واللا ديني والوطني والليبرالي والعلماني وغيرهم كلّ من منطلقه الفلسفي الذي يوصله إلى نفس هذه القيم المجردة باسم العدالة والحرية والمصلحة العامة.
وهذا التوافق الذي قد يراه بعض الإسلاميين تخلياً عن بعض المبادئ هو عندي حل ضروري تحتم وقته للمجتمعات العربية في السياق الحالي خروجاً من حالة الاستقطاب الشديد والتشظي الواسع التي تشهدها إلى حالة فيها مراعاة للنظام العام وسيادة القانون وحرصاً على أرواح الناس والسلام الاجتماعي والأهداف الأساسية والإنسانية المشتركة.
ثم إن هذه الأرضية المشتركة تبدو لي في خصيصتين للـ “الدولة المدنية” المنشودة، واللتين إذا تحققتا في المجتمع أمكن تحقيق خطوة للأمام في مسار الإصلاح العربي الإسلامي المنشود، أولهما التعددية السياسية بمعنى شامل للسياسة، وثانيهما أولوية الخدمة المدنية.
أما التعددية السياسية المنشودة فتتحقق أولاً بنظام متعدد الأحزاب لتداول السلطة، وذلك حتى نحل الإشكالية المزمنة في عدم وجود آلية سلمية لتداول السلطة، ثم لابد للتعددية السياسية أن تتوسع لتحقق تمثيل سياسي وتوازنات في توزيع السلطة المادية والناعمة بين كل القوى والتجمعات المدنية.
وأما خصيصة “الخدمة المدنية” في بناء الدولة المدنية المنشودة فلها ما لها من أهمية من أجل صنع سياسات أولويتها تحقيق مصالح الناس، وهو المقصود بالدولة أصلاً. وقد تختلف الأيديولوجيات بين اليمين واليسار في تحديد الملامح العامة لتلك السياسات، ولكن هذا لا يمنع أن هناك معايير أخلاقية ومبدئية عامة حتى لا تنحرف السياسة بالسياسات.
الخلاف حول الدولة المدنية أيديولوجي
ليس هناك “طبيعة” للمفهوم السياسي، إذ أنه تصور بشري متطور يتواضع عليه الناس ويبنون المؤسسات والنظم السياسية بناء على تواضعهم على وظائف المفهوم وأهدافه. ورغم أن مصطلح “الدولة المدنية” مصطلح ليس له تاريخ أو تعريف واضح في العلوم السياسية التقليدية والمعاصرة على حد سواء، إلا أن نشره منذ “الربيع العربي” بالمعاني الذي تناقش اليوم على مستوى العرب والمسلمين يكفي لإعطائه أهمية منهجية نظرية وصلاحية وظيفية عملية.
ولكن ينبغي -كما أسلفنا القول- أن نفرق في تعريف “الدولة المدنية” بين المبادئ القيمية التي يتفق عليها الجميع، وبين الأيديولوجيات السياسية المختلفة التي ينبغي أن تكون كلها فاعلة ومسهمة في تيارات “الدولة المدنية” المنشودة دون أن يحتكر أي منها تعريف الدولة نفسها.
أما المبادئ المتفق عليها فأولها أن يحكم المدنيون تلك الدولة لا أن يرتبط نظام الحكم بالمؤسسة العسكرية، وهذا يعني أن تكون المؤسسة العسكرية -على أهميتها القصوى- واحدة من مؤسسات الدولة ليس إلا، يجري عليها ما يجري عليهم. هذا مبدأ مهم لا يمكن أن تتحقق مدنية الدولة إلا به.
وثاني هذه المبادئ ضمان حريات وحقوق المواطنين وتساويهم أمام القانون مهما كان دينهم وجنسهم وفكرهم، وهذا يتطلب دعم مبدأ سيادة القانون واستهدافه لتحقيق العدالة واستقلاله الحقيقي عن السلطات الأخرى في الدولة، واحترام الدستور للقيم التي قام عليها المجتمع وبالتحديد لـ “مبادئ” الشريعة الإسلامية إذا كانت الغالبية من المسلمين، وهذا بالطبع مع كفالة حرية المعتقد لكل أصحاب الأديان من المواطنين.
وأما الأيديولوجيات السياسية التي لا يصح أن تدخل في تعريف الدولة المدنية نفسها ولو دخلت في تعريف فلسفات الحركات والأحزاب السياسية التي تتداول إلى الحكم، فهي “علمانية الدولة” أو “ليبرالية الدولة” أو “إشتراكية الدولة” أو حتى “إسلامية الدولة” – في نظري للدولة الوطنية، فالدولة الوطنية ليست في نظري “دولة إسلامية” إلا في المرجعية الدستورية المبدئية في دين الغالبية أو مصدر التشريع، ولابد أن نكرر أن الحديث هنا هو عن الدولة الوطنية المعاصرة تحديداً كما هي في واقعنا المعاصر تحديداً، لا عن دولة “إسلامية” مثالية يمكن أن نتصورها في الخيال لا في الحقيقة، أو نعرفها من التاريخ لا من الواقع. الحديث هنا عن الواقع الوطني للدولة.
وعليه، فقد تنادي قوى وأحزاب سياسية تسمي نفسها “علمانية” بفصل الدين عن الدولة بشكل أو بآخر أو حيادية الدولة تجاه الأديان وما إلى ذلك، ولكن هذا لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما يبقى اتجاهاً سياسياً قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.
وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية ببعض القيم الليبرالية التي تعطي أولوية لحريات المواطنين كأفراد على كل الاعتبارات الأخرى التي تقيد تلك الحريات وما إلى ذلك، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما أن يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.
وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية ببعض القيم الإشتراكية بمعنى تحكم الدولة بدرجة أو أخرى في اقتصاديات السوق أو فرض نظام تكافل اجتماعي معين وما إلى ذلك، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما أن يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.
وأن تنادي قوى وأحزاب سياسية بتطبيق الكامل لكل الأحكام الشرعية الإسلامية التي تؤثر على حياة كل المواطنين مسلمين وغير مسلمين سواء قبِل المواطنون تلك الأحكام أم لم يقبلوها، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يدخل في “تعريف” الدولة أو دستورها، وإنما يبقى اتجاه سياسي قد يسهم في تشكيل القرار السياسي العام لا أن يحتكره باسم “الدولة المدنية”.
وإذا رفض البعض هذا الكلام وأصروا على أن الدول الوطنية المعاصرة دولاً إسلامية بكل المعاني الشرعية والتاريخية، فليقم من يستطيع بثورة على أسس إسلامية حتى تقوم دول إسلامية لها دستور مختلف لطبيعة الدولة ولعلاقة المواطن بها، ولكن الثورات التي كانت أو لا زالت والتي أنتجت المرحلة الحالية، لم يستهدف فيها الناس تلك الدولة الإسلامية بالمعنى التاريخي ولم يدعي أحد ممن قام بهذه الثورة -من الإسلاميين فضلاً عن غيرهم- أنه يستهدف تغيير نظام الدولة إلى دولة إسلامية بهذه الطريقة، وإلا فإن هذه مسألة أخرى لم يكن لتتفق عليها الشعوب ولا تخرج إلى الشوارع لتؤيدها.
وهنا يأتي سؤال حول علاقة “الديني” و”المدني” في ما نتصور من “دولة مدنية”، والإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى بعض التركيب والتفصيل، مما نقدمه فيما يلي.
[1] راجع الدراسات حول الربيع العربي والمصطلحات السياسية الجديدة في: شبكة السلام والتنمية العالمية على الرابط .