جد في تراثنا الفقهي والفكري الإسلامي عددًا كبيرًا من المسائل العامة التي اعتبرها العلماء قضايا لم تأت الشريعة فيها بتحديد نهائي لموقف معين منها أو حكم شرعي حتمي ثابت، ولهذا قالوا في هذه القضايا إنها (تعود للحاكم) أو (يرجع الأمر في ذلك للأمير) أو (حسب ما يرى الإمام)، أو غير ذلك من المصطلحات التي تعود بالحكم في هذه الأمور إلى الحاكم أو الخليفة أو الأمير أو السلطان.
والتراث الإسلامي في السياسة الشرعية كثيرًا ما يخول الحاكم أو السلطان أو الخليفة بسلطات لتقرير ما يرى في مسألة ما منفردًا دون الرجوع إلى الناس أو (أن يستبد بالأمر) حسب تعبير الماوردي.
بل إن الرأي الفقهي السائد والغالب في مسألة: هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ هو أن الشورى معلمة وليست ملزمة، أي أن على الحاكم أن يستشير الناس تطبيقًا للآية الكريمة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ، والآية الأخرى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين)، ولكن الرأي السائد في الفقه هو أن الحاكم بعد هذه الشورى ليس عليه أن يلتزم بنتائجها وإنما هي فقط لإعلامه بآراء الناس، ثم هو يتخذ من القرارات ما يشاء! ويستدل العلماء ببعض أفعال الخلفاء بعد رسول الله -رضي الله عنهم- دليلا على ذلك.
والحق أن تراثنا في السياسة الشرعية في هذه المسألة آن له أن تحدث فيه نقلة مهمة، وأن يتجدد وأن يتغير من (ما يعود إلى الحاكم) إلى (ما يعود إلى الأمة)، وبين (ما يرجع الأمر فيه للحاكم) إلى (ما يرجع الأمر فيه للأمة)، وبين (حسب ما يرى الحاكم) إلى (حسب ما ترى الأمة)، وأن يتغير الحكم اليوم في قضية الشورى إلى أن تكون الشورى ملزمة وليست معلمة، أي أنه يجب ويفرض على الحاكم أن يأخذ برأي الشورى.
ذلك أن الله عز وجل حين قال (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) قد قصد بهذه الآية أن يستفيد الحاكم من الرأي الجماعي، وأن يحترم رأي الناس، ومعنى احترام رأي الناس اليوم هو النزول عليه!
ولو كانت العصور الماضية قد سمحت ظروفها والحياة البسيطة البدائية آنذاك بأن يكون الأمير على حق ومستشاروه كلهم قد جانبهم الصواب، فإن تعقد الحياة اليوم، والخوف من الوقوع في الاستبداد والديكتاتورية، وإقامة الدولة المدنية أصلاً على سلطة الشعب، كل هذا يوجب أن تكون الشورى ملزمة وأن تنتقل الأحكام المذكورة والسلطات المذكورة من “الحاكم” إلى “الأمة” وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات ومصدر الشرعية.
وعودة الأمور للأمة يمكن أن تتم عن طريق وسائل كثيرة وليس شرطًا أن تتم عبر اختيار (أهل الحل والعقد) كما هي الطريقة القديمة، أي مجموعة من الوجهاء والعلماء يختارهم الأمير لكي يعاونوه ويشيرون عليه، بل يمكن أن تتم اليوم العودة للأمة عن طريق العودة إلى (المشرِّع) كما يعرفه الدستور في الدولة وهذا المشرع يتمثل في مجلس شعب أو سمّه برلمانا أو سلطة تشريعية أو هيئة شورية أيا كانت، ولكنها هيئة منتخبة من الناس تمثلهم على اختلاف طوائفهم وهوياتهم وفئاتهم ومساحاتهم الجغرافية، أو أن تتم حسب المسألة المطروحة على الناس عن طريق العودة إلى هذه الهيئات المنتخبة عن طريق لجان متخصصة تنبثق عنها ويوكل لها البحث والدراسة والقرار في الأمور المتخصصة.
وأحيانًا يكون الأمر جللاً ويتطلب إلى أن يعود الممثلون عن الأمة إلى أمر الأمة عن طريق استفتاء مباشر للناس، وذلك في القضايا المصيرية التي سوف تؤثر جذريا في حياتهم وينبغي أن يؤخذ فيها رأيهم، وهكذا يمكن أن يعود الأمر إلى الأمة وأن ننزل كلنا على رأي الأمة.
وأما من يقول إن العودة إلى الأمة ينبغي أن تكون مشروطة بأن “لا تخالف الأمة الشريعة”، أو أن “لا تحل الأمة الحرام أو تحرم الحلال”، فهذا الشرط مردود عليه بعدة أمور، أولها: أن تقرير “هل خالفت الأمة الشريعة؟” لابد أن يعود إلى هيئة أو إلى فرد هو أعلى من الهيئات التشريعية نفسها التي وكلت لها الأمة القرار، وهذا يؤول بنا إلى ولاية الفقيه، أليس كذلك! وولاية الفقيه نظام يعود إلى رأي فرد معين أو مجموعة معينة لمجرد أن عندهم شهادات علمية معينة في علوم الشريعة تحديداً، ثم يضعهم فوق الأمة و فوق هيئاتها التشريعية!
والحق أن قضية أن “تحلل الأمة الحرام أو تحلل الحرام” ليست دقيقة إن كان الحديث عن المسائل السياسية، لأن القرارات السياسية و”السياسات” لا تخضع للنصوص الشرعية بشكل مباشر ولو ورد فيها نصوص شرعية.
أما إن كان الحديث هو عن مسائل دينية يدعي البعض أنها قد تحولت من حرام إلى حلال أو حرام إلى حلال وهي أمور ليست قطعية في الدين بل هي اجتهادات تختلف فيها الأنظار، فلابد أن يحترم الجميع رأي الأمة وأن الأمة يحق لها أن تختار في الأمور الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار.
ثم إننا ينبغي أن نفرق بين التحليل والتحريم وبين التشريع وعدم التشريع، لأنه ليس كل ما هو حلال في شرع الله ينبغي أن يكون جائزًا بالقانون، وليس كل ما هو حرام في شرع الله ينبغي أن يجرّم في القانون، وليس كل ذنب جريمة، كما سيأتي في مقال لاحق.
وأخيرًا: حتى ولو فرضنا أن الأمة أو المجلس التشريعي سوف يقرر أمرًا يختلف عن أو يتناقض مع المعلوم من دين الله بالضرورة، فلا يمكن أن نجبر الناس على الحق: (أفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ولكنّ كل التصورات الواقعية تشير إلى أن هذا الاحتمال من المستبعد بالمرة حدوثه. وحتى لو حدث فماذا نفعل؟! ليس أمام الذي يظن أن الأمة حرمت حلالاً أو حللت حرامًا إلا أن يطعن دستوريًا في هذا، أي ليس له إلا أن يرد الأمر الذي صدر من خلال النظام نفسه وليس انقلابًا على النظام.
وهكذا تتثبت معالم النظام المدني الدستوري المنشود، وتتثبت سلطة الأمة، ونتجنب أن يعود النظام إلى الدكتاتورية، وهكذا يمكن للحاكم أن يكون خادمًا للشعب وأن تكون سلطاته تنفيذية بحتة.
أما من أراد أن يفرض ما يراه أنه “الإسلام” على الشعب المصري (مثلا)، فليقم بثورة أخرى وليسمّها إسلامية هذه المرة ويضع لها مبادئ أخرى وتأتي بدستور “إسلامي” مختلف، ولا يقول عاقل إن هذا ممكن أو حتى مجدٍ في طريق الإصلاح المنشود.