يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه: “أَرِحْ نَفْسَكَ مِنَ التَّدْبيرِ. فَما قامَ بِهِ غَيرُكَ عَنْكَ لا تَقُمْ بهِ لِنَفْسِكَ.”
هناك معنى من المعاني الإسلامية القلبية الهامة قد يُفهم خطأً ويؤدي الفهم الخاطئ إلى عواقب لا تحمد، وإلى انحرافات وبدع بل وتخاذل في الدين والدنيا! وهذا المعنى هو التوكل على الله تعالى، والانحراف هو (التواكل)، وترك الدنيا لمن لا دين لهم، وترك العمل، و(البطالة) بتعبير أهل التصوف.
يقول الشيخ رحمه الله ورضي عنه: (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك). فما المقصود بالتدبير هنا؟
التدبير في اللغة يعني: النظر إلى عواقب الأمور وإلى المآلات والنتائج، فالتدبير يتعلق بالنتائج.
والمآلات والنتائج تتعلق بمعنى التوكل على الله، قال تعالى: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، و{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وهكذا في القرآن ترى التوكل مذكورًا وممدوحاً في آيات كثيرة، لأن التوكل معنى أساسي، وما يتكرر ذكره في القرآن نعلم أنه تزيد أهميته وأولويته.
ولكن هناك فارق معتبر بين التوكل وبين التدبير الذي يتحدث عنه الشيخ، وهو الفارق بين الأسباب والنتائج، أي بين العمل بمعنى الأخذ بالأسباب وبذل الجهد والفكر والوقت، وبين نتيجة العمل بمعنى الأحداث والأرقام والمآلات والمحصلة التي تترتب على العمل. أنت عليك العمل، وعليك الأخذ بالأسباب، وعليك التوكل، ولكن ليس عليك أن تدبر الأمر، فالذي يدبر الأمر هو الله سبحانه وتعالى. { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ؟}، هذا سؤال بنص القرآن.
الله يدبر الأمور، وهو الذي عليه النتائج وأنت إنما عليك الأسباب، لأن الأخذ بالأسباب جزء من التوكل. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضرب لنا مثلًا للتوكل قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطاناً)، فأنت كالطائر، وهذا الطائر لا يبقى على فرع الشجرة طول اليوم، ينتظر الحَبّ، بل يذهب ويحاول، ويطير يميناً ويساراً ويقضى نهاره كادحاً حتى يصل إلى الحَبّ، لكنّ الحَبّ نفسَه على الله سبحانه وتعالى، الطائر عليه السعي وعليه الطيران وعليه البحث، ولكن (الرزق على الله). أليس كذلك؟
إذن، عليك الأسباب وليس عليك النتائج، وهذا معنى في منتهى الأهمية؛ لأن من المسلمين -ومن أهل السلوك أحياناً- مَن ينحرف بهذا المعنى فيهمل الأسباب ويمكث في المسجد أبداً، ويسأل الناس طعامه وكسوته، ويقول: (ليس علىَّ التدبير)! نعم، ليس عليك التدبير ولكن عليك التوكل، والتوكل يستلزم الأخذ بالأسباب.
وفي الحديث أن رجلاً كان ماكثاً في المسجد أبداً بحجة (التفرغ للعبادة) فسأل صلى الله عليه وسلم: من ينفق عليه؟ قالوا: أخوه. قال: (أخوه خير منه). وأدّب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجالاً قعدوا في المسجد بعد الصلاة وقالوا: نحن المتوكلون، وقال قولته الشهيرة: إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
أما إذا انقطعت الأسباب رغم المحاولات، فهنا محل للتوكل على الله سبحانه وتعالى. والحق أن التوكل على الله سبحانه تعالى يؤيده بل يقويه وينميه انقطاع الأسباب! فإذا انقطعت أسبابي رغم أنني قد حاولت تحصيلها قلت: يا رب لقد انقطعت أسبابي، ولم يعد لي ما أستطيع أن أفعله. ولعلّى حينئذ أتوكل على الله حق التوكل. ولكن لا يصح أن أتوكل على الله عز وجل وأنا لم أعمل شيئاً، ولم آخذ بالأسباب، أو أجرّد نفسي عمداً من الأسباب كما يفعل بعض الجهلاء، وإنما ينبغي أولاً أن آخذ بالأسباب، ثم أتوكل على رب الأرباب.
والمولى الكريم أحياناً ما يجردني من الأسباب ومن الحَول والقوة والوسائل – حتى أعود إليه، وأتوكل عليه حق التوكل، وهذه منحة غالية!
والتوكل لا ينافي ما نسمّيه بلغة العصر بالتخطيط ودراسة الجدوى ودراسات السوق، إلى آخره. هذا كله من التوكل على الله، لأنه من الأخذ بالأسباب. فإذا كان عندك تجارة فلابد أن تأخذ بدراسة الجدوى والسوق وتأخذ بالعلم وتحسب جيداً، فإن خسرت فهو أمر الله سبحانه وتعالى، وإن نجحت فهو أمر الله سبحانه وتعالى. لكن ليس عليك التدبير بمعنى ليس عليك النتائج سواء الخسارة أو النجاح، ليس عليك المكسب أو الخسران في المال، وليس عليك النجاح أو الفشل في الامتحان، لكن عليك المذاكرة وعليك الأخذ بالأسباب. ليس عليك النجاح والفشل في مشروع ما، أو في المسائل الدينية، الدعوية منها والعلمية والعبادية، أنت تتعبد لله سبحانه وتعالى بأن تدعو الناس إلى الخير مثلاً؛ لكن: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}، و{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فأنت تدعو الناس إلى الخير، لكنك لا تدبر الأمر فيما وراء ذلك، كما نقول في العامية المصرية: (مغسل ميت ولا ضامن جنة).
يقول الشيخ رحمه الله ورضى عنه: (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك). ما المقصود بـ (غيرك) هنا؟ من الذي يقوم عنك بالرزق؟ ومن الذي يقوم عنك بالنجاح؟ ومن الذي يقوم عنك بالنتائج؟ هو الله سبحانه وتعالى، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.
وهذه قضية عقلية بسيطة، فإذا كان إنسان متخصص مثلاً يقوم عنك بشيء من الأشياء أو عمل من الأعمال فلا يصح أن تقوم به أنت بل تدع الأمر له. فما بالك بأن الذي يقوم عنك هو الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي لك أن تطلب هذا المكان العزيز. التدبير هو لله سبحانه وتعالى.
وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.