يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“لا تَتْرُكِ الذِّكْرَ لِعَدَمِ حُضورِكَ مَعَ اللهِ فيهِ؛ لأن غَفْلَتَكَ عَنْ وُجودِ ذِكْرهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلتِكَ في وُجودِ ذِكْرِهِ. فَعَسى أَنْ يَرْفَعَكَ مِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ غَفْلةٍ إلى ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ غَيْبَةٍ عَمّا سِوَى المَذْكورِ، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}”.
ما زلنا في مرحلة التخلية في رحلة البحث عن العيوب ومحاولة تنقية النفس منها، وهذه الحكمة تتناول عيباً من عيوب النفس خطير ومتواصل، وكثيرًا ما نبتلى به في ساعات كثيرة من كل يوم، ألا وهو عيب الغفلة عن الله سبحانه وتعالى، والغفلة عكسها الذكر، فحين تذكر الله عز وجل، فلست بغافل.
قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}، وقال: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، وقال: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، وقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله).
وهذه كلها، وغيرها كثير، توجيهات مباشرة وصريحة في أنه لابد للمسلم أن يذكر الله على كل حال، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل حال، وكان له دعاء في كل حال صلى الله عليه وسلم، والدعاء نوع من أنواع الذكر لله تعالى.
ونتلو: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، لأن الذكر يولد الطمأنينة في النفس حين تحسّ بالقرب من الله. والذكر هو المقصود من العبادة، فقد قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري}، كأن الذكر هو المقصود والهدف من الصلاة. بل إن الذكر أكبر من الصلاة أي في النهى عن الفحشاء والمنكر، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}، والذكر أكبر من الصلاة لأنه أصل الصلاة والهدف من الصلاة.
لكن الشيخ هنا يحدثنا عن شيء يحدث أحيانًا في الذكر ويعتريه؛ أن تذكر الله فلا تحسّ بالذكر في قلبك، والسؤال هو: هل نترك الذكر حين لا يستحضر القلب أم نواصل الذكر حتى مع عدم حضور الذهن والقلب؟
يقول الشيخ في هذه الحكمة: (لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، فعسى أن ينقلك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، {وما ذلك على الله بعزيز}).
الشيخ يقول: إن لم تحس وتستحضر الذكر في قلبك، واصل الذكر حتى مع وجود هذا النوع من الغفلة، مثلاً أن تقرأ القرآن ولا تحس أنك تتفكر فيه لأن ذهنك مشغول، أو أن تذكر الله سبحانه وتعالى ولا تحس فعلاً بالتسبيح، أو التحميد، أو التهليل، في هذه الحالة: لا تترك الذكر بل استمر في الذكر، لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك فيه، فعسى -أي المرجو والمأمول من الله سبحانه وتعالى بمحض كرمه وفضله وعفوه ومنّه- أن ينقلك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، أي أقل درجات الذكر هي الذكر مع وجود يقظة، يعني ألا تكون نائماً، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما يقولون}، فعسى الله عز وجل أن ينقلك إلى اليقظة، أن يفيقك من السكرة التي تأخذك عن الذكر الحقيقي، أي سكرة الدنيا، وسكرة الانشغال بالأشياء وبالأغيار، وأن يأخذك الله سبحانه وتعالى إلى اليقظة، ثم يأخذك إلى مرحلة أخرى أعلى، وهى الحضور.
فالشيخ يقول: (ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور)، والحضور أعلى من اليقظة أي يستحضر العبد الذكر، تذكر الجنة فتستحضرها، تذكر النار فتستحضرها، تذكر الله عز وجل فتستحضر عظمته، وتستحضر نعمته في عقلك وقلبك وشعورك وإحساسك.
هذا الاستحضار في القلب الذي وصفه سيدنا علي –رضي الله عنه- في تلك الخطبة الشهيرة التي وصف فيها المتقين، والتي قال فيها: (فإذا مروا بآية فيها تخويف ظنوا أن شهيق النار وزفيرها في أصول آذانهم)، يعني: يمرون بآية فيها ذكر النار، فكأنهم يسمعون صوت النار. (وإذا مروا بآية فيها تشويق تطلّعت قلوبهم إليها)، أي كأنهم ينظرون إلى الجنة، فلا يبعد على كرم الله تعالى أن ينقلنا من هذا الذكر الذي فيه غفلة إلى ذكر فيه يقظة، ومن ذكر فيه يقظة إلى ذكر فيه حضور كحضور هؤلاء الصحابة حين يحسّون ويسمعون الغيب البعيد من جنة أو نار.
ثم قال: (ومن ذكر فيه حضور إلى ذكر فيه غيبة عما سوى المذكور). فقد يذكر الإنسان الله عز وجل فلا يحس بشئ إلا هذا الذكر ولا يشعر بما حوله، وهذه نسمة من النسمات الرحمانية الربانية التي إذا تعرض لها الإنسان مرة في اليوم أو في الأسبوع، فهو خير كثير لا يوصف، أن تحسّ باستغراقك التام في المعنى وما وراء المعنى، تحس بالغيبة عن الدنيا.
وهذا الكلام ليس له علاقة بهؤلاء الناس الذين يدّعون إنهم لا يرون شيئاً أبداً إلا الله، وأن الدنيا قد غابت، … إلى آخره. هذا من الشطحات التى لا يعلم إلا الله مقدار صدقها. ولكننا نتكلم عن نسمة تهب عليك تحس فيها بالغيبة عن ما سوى المذكور سبحانه وتعالى، فتذكر صفات الله سبحانه وتعالى مثلًا، فتذكر نعمته عليك، وتحس بالتقصير، وتحس بجوده وكرمه سبحانه وتعالى فيأخذك هذا المعنى تماماً حتى عن النعمة نفسها إلى المنعم، ويأخذك من الرحمة إلى الرحمن، ومن القوة والجبروت في خلق الكون مثلًا إلى الجبار القوي، ومن الأكوان إلى المكوّن.
{وما ذلك على الله بعزيز}، أى أن هذا يتوقف على رحمته وفضله تعالى، كما تعلّمنا في الحكمة الأولى ألا نعتمد على العمل مهما صلح في هذا الأمر وأن نركن إلى الرجاء فيه تعالى. ذلك لأن الله عز وجل هو الكريم، وهو الذي يرزقنا هذه الرحمات، وهذا الذكر الراقي، وهذا الحضور الثمين من محض كرمه وفضله عز وجل لا بأعمالنا ولا بشيء نستحقه، وإنما هو من محض فضله سبحانه وتعالى، والمسألة لا تحتاج إلى شيء أكثر من الرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى.
فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا هذا الذكر وأن ينعم علينا بدوام الذكر، وبتمام الذكر، وبالشكر، وحسن العبادة. نسأل الله عز وجل أن ينقلنا من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عن ما سوى المذكور سبحانه وتعالى، {وما ذلك على الله بعزيز}.