يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوالِها، وَمَنْ شَكَرَها فَقَدْ قَيَّدَها بِعِقالِها.
ومَنْ لَمْ يُقْبِلْ عَلى اللهِ بِمُلاطَفاتِ الإحْسانِ قِيْدَ إلَيْهِ بِسَلاسِلِ الامْتِحانِ.”
من سنن الله سبحانه وتعالى التي يُجري بها الرزق، كل أنواع الرزق، أن شكر الله على النعمة يزيد النعمة نفسها أو يستبدلها بما هو أفضل منها. قال عز من قائل: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، وهو قانون عام وسنة ماضية.
وإننا لن نستطيع أن نعدّ النعم كلها عدّاً فضلاً عن أن نشكرها كلها! والله عز وجل يقول في محكم كتابه: {وإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}. ولكن ينبغي على المسلم على أي حال أن يجتهد في أن يشكر الله سبحانه وتعالى على ما ينعم عليه من نعم.
ثم يقول تعالى: {ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد}، والكفر هنا هو كفر النعمة، وهو ليس الكفر الذي يعني عدم الإيمان، بل الكفر هنا هو أن يقصّر العبد في الشكر. وهذا عيب آخر يتحدث عنه الشيخ في هذه الحكمة البليغة.
يقول الشيخ: (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها)، فالذي يشكر النعم يقيدها إليه حتماً لأن وعد الله بالمكافأة على الشكر وعد صادق، وهو كأنه ضمان يأتي مع النعمة، ولكن الضمان هذا يتطلب منك عملاً تؤديه، وهو أن تشكر النعمة.
والشكر لا يكون فقط بقول: (الحمد لله)، ولكن الشكر يكون أيضاً عن طريق العمل. قال تعالى: {اعملوا آل داود شكراً}. والشكر بالعمل يقتضي الأسئلة التالية: ماذا فعلت بهذه النعمة؟ هل وضعتها في حلال؟ هل ساهمت بها أو بجزء منها في معروف أو غرض صالح؟ أم وضعتها في حرام واستخدمتها في حرام أو منكر؟ وفي هذه الحالة، والعياذ بالله، العمل نفسه هو كفر بالنعمة.
إذن، إن لم تشكر النعم بالقول والعمل فقد تعرضها للزوال. (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها قيدها بعقالها).
ثم يقول الشيخ رحمه الله: (من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الامتحان)، ذلك أنك إن لم تشكر النعم وتقبل على الله تعالى حتى تصل إلى درجة الإحسان، يمتحنك الله سبحانه وتعالى حتى يمنحك فرصة أخيرة لكي تصل إلى هذه الدرجة.
إذن، يمتحنك الله لكي يُرقّيك ويزكيك، ولكي تتضرع فيتوب عليك. قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}، فحين يمتحنك الله بشيء فالأولىَ بك أن تستكين وأن تتضرع وتدعو. ويقول عن المنافقين: {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}.
وحين يمتحنك فهو لا يريد أن يعذبك أو يتعبك، وإنما يريد منك أن تعود إليه، وأن تبدأ في عدّ النعم التي أنعمها عليك، وتبدأ في شكر حقيقي باللسان وبالعمل.
والله سبحانه وتعالى حين يبتليك بفقدان بعض النعم إنما يبتليك بمس من العذاب فكل منا لديه ملايين، لا بل مليارات لا تعد من النعم. أنا عندي مليارات من النعم لا أستطيع حتى أن أعدها، وحين يبتليني الله بفقد نعمة، أو اثنتين، أو حتى خمسة، أحسّ وكأنني في أزمة شديدة، ولكن الحقيقة هى أن عندي ملايين ومليارات من النعم الآخرى التي يغدقها عليّ كل لحظة.
ففي كل خلية نعمة، وفي كل ثانية نعمة، وفي كل نَفَس نعمة، وفي كل نظرة نعمة، وما لا يحصى من النعم. فالله هو المستحق للشكر سبحانه مهما حدث. أضف إلى ذلك أنه حين يبتليك بفقدان نعمة أو اثنين فهو –بتعبير الشيخ– يقيّدك إليه، أي يردك إليه رداً جميلاً، فيأخذ منك نعمة بسيطة حتى تعود إليه وتتوب إليه، وحتى تتذكر وتتفكر، فإذا تبت إلى الله وتذكرت وعدت فإن الله سبحانه لا يبتليك إلى الأبد. {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً}، ولاحظ هنا أنه كررها الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: {سيجعل الله بعد عسر يسرا}، وهذا وعد صادق فأحيانًا تتعسر الأمور، ولكن يأتي الله سبحانه وتعالى باليسر مع العسر، ويأتي باليسر بعد العسر كذلك.
فعندما تحدث مشكلة أو مصيبة يأتي مع المشكلة اليسر، أي في وسط الأزمة تجد اليسر، بل نفس لحظة العسر يأتي اليسر معه! فإن كان هذا اليسر هو مزيد من القرب من الله تعالى فهذه نعمة، فربما يعطيك الله سبحانه وتعالى الامتحان فتتقرب منه، ويصير هذا الامتحان لا شيء في مقابل المكسب الذي حققته بقربك من الله، وبسؤال نفسك: كم عندي من النعم!؟ فأعود إلى الله سبحانه وتعالى وأتوب، واستصغر في جنب رحمته وفضله ونعمه وآلائه هذه النعمة التي فقدتها، وهذا الكدر الذي أصابني، وأضع الأشياء في نصابها الحقيقي، وفي هذه الحالة يرفعك الله سبحانه بهذا الابتلاء ثم يرفع البلاء عنك.
وإن أردنا أن نتجنب هذا كله، فلنقبل على الله عز وجل بالإحسان والشكر. ولكن هذا لن يحدث دائماً أبداً، لأننا بشر ضعفاء لا نستطيع أن نشكر الله وتعالى على كل شيء، فأحيانًا نقصر، بل كثيراً ما نقصر! (كل ابن آدم خطّاء). ولذلك، فالله عز وجل يجبر كسرنا ويقوي ضعفنا ويصلح من شأننا بالابتلاء الذي دائماً ما يأتي معه اليسر، وبعده.
أدعو الله عز وجل أن نكون ممن يتذكر ويعود ويتوب، ونسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.