يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“لمّا عَلِمَ الحَقُّ مِنْكَ وُجودَ المَلَلِ، لَوَّنَ لَكَ الطّاعاتِ. وًعَلِمَ ما فيكَ مِنْ وُجودِ الشَّرَهِ فَحَجَرَها عَلَيْكَ في بَعْضِ الأوْقاتِ، لِيَكونَ هَمُّكَ إقامَةَ الصَّلاةِ لا وُجودَ الصَّلاةِ، فَما كُلُّ مُصَلٍّ مُقيمٌ.”
الحكمة التي بين أيدينا تتعلق بموضوع هام من مواضيع السلوك إلى الله سبحانه وتعالى وهو ما يسميه أهل هذا العلم بالمقامات أو المنازل، أي المستويات المختلفة التى يسير فيها العبد في ممارسة العبادات.
أولاً، قد يفقد العبد كل مقامات الأداء في العبادة ويحدث الملل. والله عز وجل علم أن من طبيعتنا وجود الملل. ولذلك فمن رحمته ومن عظمة شرعه أن لون لنا الطاعات، فتستطيع أن تعبد الله عز وجل بطرق كثيرة. مثلاً، الصلاة طريق ثابت للتعبد لله تعالى خمس مرات فقط في اليوم والليلة. ولكن من رحمة الله عز وجل أن شرع لنا ألواناً وأبواباً من نوافل الصلاة: كصلاة الليل، وصلاة الشكر، وصلاة الحاجة، وغير ذلك.
وإذا حدث ملل، يقتصر العبد على فرائض الصلاة ويصوم، مثلاً. وإذا كان لا يريد أن يتنفل ولا أن يصوم غير رمضان ولكنه متحمس للصدقة، أو الجهاد، أو العمرة، أو التعليم والتعلم، أو الإحسان للجار وذي القربى (فوق ما يجب من فرائض)، أو يساعد الناس بجهده أو وقته أو عقله أو قلمه أو دعائه، فكل هذه ألوان من الطاعات والقربات إلى الله الكريم.
فالناس يختلفون، والتنوع من سنن الله فيما خلق. والتنوع ليس فقط في القدرات، ولكن أيضًا في قدرة الشخص في الاستمرار في الأداء فقد تحب صلاة النوافل، ولكن إن صليت ليل نهار دون توقف مللت. ولذلك يشير الشيخ هنا إلى أن الله قد علم منا الشَرَه أي إرادة الاستمرار دون توقف، فحجر الله تعالى علينا العبادات في بعض الأوقات حتى لا نفعل ذلك، لأن (المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، فمكروه علينا أن نصلي مثلًا بعد الشروق، أو قبل الزوال أو بعد العصر، وذلك حتى نشتاق إلى الصلاة، فالصلاة -أي النافلة- ليست مسنونة في كل وقت، مما يجعلنا نشتاق إليها. فتترك الصلاة بعد العصر مثلاً وتنتظر إلى المغرب حتى تتنفل. وربما فتح لك باب الصوم، ولكنه حجره عليك في بعض الأوقات لنفس الحكمة، فيحرم علينا أن نصوم قبل رمضان مباشرة، وأول أيام العيد، وهكذا.
وإذا فتح الله عز وجل لنا باب قراءة القرآن قد يرغب المرء رغبة غير واقعية أن يقرأ القرآن أبداً لا يتوقف! ولكن يكره شرعاً أن تقرأ القرآن وأنت راكع أو ساجد في صلاتك، أو في الخلاء، أو في حالة الجنابة، فالله عز وجل علم منا طبيعة الملل البشرية، وعلم منا اختلاف القدرات، فنوّع ولون لنا الطاعات كرماً وفضلاً منه سبحانه وتعالى، وعلم منا كذلك وجود الشَرَه أو المغالاة فحجر علينا بعض العبادات في بعض الأوقات، وهذا من رحمته سبحانه وتمام نعمته وكمال دينه وحكمة شرعه.
ثم إذا فتح الله على العبد لوناً أو باباً من أبواب العبادة، لابد أن يحسنها ويرتقي في مقامات أداءها. وضرب الشيخ المثال بالصلاة فقال: (وإنما طلب منك إقامة الصلاة لا وجود الصلاة، فما كل مصل مقيم). فالله عز وجل حين تحدث عن الصلاة أمرنا بإقامتها: {وأقيموا الصلاة}، وإقامة الصلاة غير وجود الصلاة، فإقامة الصلاة: أن يكون فيها الخشوع: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
والفارق بين وجود الصلاة وإقامتها هو أن تخشع في الصلاة، والخشوع هو حكمة تجنب الصلاة (النافلة) في حالة الملل أو حالة الشَرَه لأن الخشوع لا يتحقق في هاتين الحالتين.
والخشوع (علم) في مصطلح أهل التصوف، وكونه علم هو مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم عن أشراط الساعة كما روى أبو الدرداء: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شئ، ثم قال: إن شئت حدّثتك بأول علم يرفع، أول علم يرفع من الناس الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً.
ولنضف كلمات عن الخشوع أذكر نفسي وإياكم بها، فقد قال العلماء من أهل هذا العلم إن الخشوع على ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولي: الذل: وهو أن تصلي وتستشعر الذل لله سبحانه وتعالى، وهذا يظهر في الحركات والسكنات فنحن لا نركع ولا نسجد إلا لله، لأن ذلك من مظاهر الذل، والذل لا يكون إلا لله عز وجل، والذل يقتضي أن ترى في نفسك الضعف والعجز، وترى في نفسك الفاقة والفقر، وأن الله عز وجل هو القوي، وهو الغني، وهو القدير، فيحدث الذل. والذل أيضاً ينتج عن الطمع، كما مر معنا في الحكمة التى يقول فيها الشيخ: (ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع). فالطمع فيما عند الله ينتج الذل له.
المرتبة الثانية: الخوف: والمرتبة الأعلى من الخشوع أن ينتقل العبد من الذل إلى الخوف من الله تعالى وعظمته وجبروته وعقوبته، فينتقل الحال من الذل بين يدي الله إلى حال الخوف من الله سبحانه: {إذا ذكّروا بآيات ربهم خروا سجداً وبكياً}، وهذا هو مقام الخوف، والخوف قد يفيض فيحدث البكاء. {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}. وعن مطرف عن أبيه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء.
المرتبة الثالثة: السرور: وأفضل خشوع في الصلاة أن تجد نفسك مسروراً وفرحاً بمعية الله تعالى في صلاتك، فتقرأ القرآن وتسبح وتحمد وأنت فرح ومنبسط ومستنير، وهذا مقام عالٍ من مقامات الخشوع، قد تتنزل فيه السكينة والملائكة.
فعن أسيد بن حضير أنه بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، إذا جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، ولما أخّره رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فلما أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحي وكان منها قريباً، فانصرفت إليه ورفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا والله، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم.
وعن البراء: كان رجل (ولعله البراء نفسه) يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن).
وحين ينقلك الله عز وجل إلى مقام فرح ونور، فهذا من فضله ورحمته المحضة، وليس بعملك، ولكن الأسباب التي يمكن للعبد أن يأخذ بها حتى يرتقي في هذه المقامات هى التدبر فيما يقرأ من معاني القرآن، ومحاولة تحصيل هذا الخشوع لله سبحانه عن طريق استحضار المعاني التي تتعلق بالذل أو بالخوف أو بالفرح، وقد تتداعى المعاني إلى المعاني، وقد يسعد العبد بنفحة من الكرم الإلهى تنقله من حال إلى حال.
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
فتنتقل بفضل الله تعالى من الذل إلى الخوف، ومن الخوف إلى الفرح والسرور، أي من الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإحسان.
وهذه المقامات الثلاثة تتعدد أشكالها في أشكال العبادات المختلفة وليس فقط في الصلاة:
فالإسلام هو العمل الظاهر، أن تؤدي الصلاة فتركع وتسجد، وتؤتي الزكاة فتعطي المال، وتصوم رمضان فتمتنع عن الطعام والشراب، وتحج البيت فتطوف وتسعى وتنحر.
ولكن الإيمان هو ما وقر في القلب، وإذا وقر في القلب أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، أدى ذلك إلى أن تكون الصلاة أكثر من الركوع والسجود، بل الخشوع والخوف والفرح، وتكون الزكاة أكثر من إعطاء المال، بل الرحمة بالفقير والزهد في الدنيا، ويكون الصوم أكثر من الكف عن الشهوات، بل الذكر والشكر والتفكر، ويكون الحج أعلى من مجرد الطواف والسعي إلى تذكر الآخرة والسير في طريق الرسل والأنبياء، وهكذا.
ثم إن الإحسان أن تعبد الله في كل هذه الأحوال كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وهذه المقامات الثلاثة تتجلى في الصلاة، ففي هذه المقامات الثلاثة المقابلة من مقامات الخشوع مقام الذل الذي هو بالجسد ويظهر في الحركات، ثم مقام الخوف وهو بالقلب، ثم مقام الفرح وهذا مقام من مقامات الإحسان لله تبارك وتعالى.
ونفس المقامات تتجلى في غير الصلاة من الطاعات والقربات. فحين تحدث الشيخ عن الذكر قال: (عسى أن ينقلك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور).
وهذه أيضًا هي نفسها المقامات الثلاثة المذكورة. فمقام اليقظة هو مقام الإسلام، ويقتضي أن تتيقظ لما تتلو من قرآن أو ذكر. ومقام الحضور: هو مقام الإيمان وهو أن يحضرك المعنى فتخاف من الله سبحانه وتعالى. ثم، إن مقام الغيبة عن سوى ما تذكر: هو مقام الإحسان، وفيه تغيب الدنيا من ذهنك، ولا تستحضر في قلبك إلا الله.
ومن الصحابة رضى الله عنهم من كان إذا صلى لا يحس بشيء، وقد رُوي عن عبد الله بن الزبير أنه كان يصلي فيخشع في صلاته فلا يتحرك حتى يقف الطير على رأسه يحسبه جذع شجرة. وروي أيضًا عنه رضي الله عنه أنه كان يصلي يوماً فوقع حائط من منزله فلم يتحرك، وفزع الناس. ثم إنه بعد الصلاة سئل عن ذلك، فأخبر الناس أنه لم يحسّ ولم يسمع بالجدار حين وقع! أي أنه رضى الله عنه كان يُستغرق تمامًا حتى يغيب البيت ويغيب الناس.
فعسى الله سبحانه وتعالى أن ينقلنا بمنِّه وفضله في هذه المقامات من مقام الذل إلى مقام الخوف منه سبحانه وتعالى، ومن مقام الخوف إلى مقام الفرح والسرور، أي من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، فهو ولىّ ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.