يقول الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري – رحمه الله ورضى عنه:
“رُبَّ عُمُرٍ اتَّسَعَتْ آمادُهُ وَقَلَّتْ أمْدادُهُ، وَرُبَّ عُمُرٍ قَليلَةٌ آمادُهُ كَثيرَةٌ أمْدادُهُ. فمَنْ بُورِكَ لَهُ في عُمُرِهِ أدْرَكَ في يَسيرٍ مِنَ الزَّمَنِ مِنْ مِنَنِ اللهِ تَعالى ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ دَوائِرِ العِبارَةِ وَلا تَلْحَقُهُ الإشارَةِ.”
في المصطلح الإسلامي خاصة عند أهل السلوك، هناك ما يسمى بـ (البركة). والبركة عرفها العلماء بأنها: خير الله عز وجل في الشيء، أو الخير الإلهى يظهر في الشيء، وأن يبارك الله في الشيء معناه أن يجعل فيه الخير.
والشيخ في هذه الحكمة يقول: (رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورُب عمر قلت آماده واتسعت أمداده). و(اتسعت آماده) أي أعداد سنينه، أي كثرت السنين وطال العمر، و(قلت أمداده) أي قلت بركته، أي المدد والخير من الله سبحانه وتعالى فيه، أي أن الشيخ يقول: رُب عمر طويل ولكنه قليل البركة، والعكس صحيح، فرُب عمر قصير ولكنه كثير البركة والخير.
ثم يقول: (فمن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة). ومعنى هذا الكلام أنك لا تستطيع أن تحصى أو تحصر ما يحصل من نعم الله تعالى في عمر قليل ولكنه مبارك.
انظر إلى عُمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المثل الأعلى. ففي عشرين سنة بعد نزول الوحى، غّير الدنيا، وبلغ رسالة الله للإنس والجن، وحوّل مسار التاريخ البشري كله إلى يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم. فهذا عُمر مُبارك ما زال يفيض علينا بالخير كل يوم وكل ساعة. فكل صباح من صباحاته وكل ليلة من لياليه –بأبي هو وأمي- كان الخير يفيض منه إلى الناس والمثل والمعاني، وحتى الأشجار والأحجار والأشياء. كل كلمة تحمل علماً، وكل توجيه يصنع رجلاً، وكل قرار يفتح باباً من أبواب الخير لا يغلق إلى قيام الساعة. ما أعظم البركات وما أوسع الأمداد، رغم قلة الأعداد.
ونرى أمثلة على نفس المعنى في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أئمة الإسلام، حيث تجد من الصحابة من عاش حتى الثلاثين أو الأربعين فقط لا غير، ولكنه ترك أثراً واسعاً في الإسلام، وحقق في سنين قليلة الكثير والكثير، فمصعب بن عمير رضي الله عنه مات شاباً، ولكنه فتح يثرب فتح دعوة قبل هجرة الرسول إليها، وترك في تاريخ الإسلام أبلغ الأثر. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان خليفة على المسلمين ثلاث سنوات فقط، ولكن الله عز وجل حفظ به الإسلام، وهكذا.
ومن أئمة الإسلام من لم يتجاوز الستين، ولكنه ترك عشرات الكتب الهامة ومئات التلاميذ النبغاء وعلم موروث ملأ الأرض من بعدهم إلى يومنا هذا، كالإمام الشافعي والإمام الغزالي والإمام ابن القيم، وغيرهم.
ثم إنه من نعم الله علينا – إذ علم أن هممنا واخلاصنا وحالنا يتقاصر عن المقارنة مع هذه المقامات العالية وأننا نحتاج إلى فيض من رحمته المحضة وكرمه الخالص حتى نتحصل على خير، أي خير – أقول إن من منن الله تعالى أن يبارك في بعض الأوقات بركة خاصة، ويجعل الله فيها الخير أكثر من غيرها: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة}، وهي ليلة القدر، إذ جعل الله عز وجل فيها الخير مضاعفاً، حتى أن عبادتها خير من عبادة ألف شهر، {وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر}.
وهناك أوقات مباركة أخرى، فيوم الجمعة يوم مبارك، وساعة ما قبل الفجر ساعة مباركة، و(بركة أمتي في البكور)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الأوقات المباركة جعل الله عز وجل فيها الخير تحفيزاً لنا على اغتنامها. فمثلاً، (البكور) وهو الساعات الأولي من الصباح والتي غالباً ما ينام فيها الناس، لو تغتنمها في العمل تنجح في عملك، أو في شيء من رياضة أو كتابة أو عبادة تنجح في ذلك إن شاء الله؛ فهذه الساعات الأولي ساعات بركة.
ومن منن الله تعالى كذلك أن يبارك في بعض الأماكن. فهناك أماكن اختارها الله تعالى ليكون فيها من الخير أكثر من أماكن أخرى. يقول تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، ويقول: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين}، فهذه بقع تحصل فيها البركة.
والبركة أيضاً تأتي مع الإخلاص، فإذا أخلصت لله عز وجل في عمل يبارك الله فيه. فتعمل العمل اليسير أحياناً ثم تنساه فيبارك الله عز وجل فيه فتجده بعد سنين وقد أصبح عملا كبيراً نافعاً، تنصح ولداً أو شخصاً، أو تصلح شيئاً، أو تتصدق صدقة يسير، ثم يبارك الله في عملك المحدود حتى يصبح شيئاً كبيرًا من حيث لا تدري ولا تحتسب! هذا من بركة العمر وكرم الله المحض الذي لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة.