من نافلة القول إدانة ما يحدث في عالمنا العربي بشكل عام وفي مصر بشكل خاص وبأشكال مختلفة وعلى مستويات الحكومات بل والشعوب للأسف، من استهانة بأرواح الناس
خاصة الذين يجرؤون على معارضة الاستبداد السياسي، ومن جو عام سادت فيه الحدة والأنانية الفردية والحزبية وأشد درجات الإقصاء بل التصفية لكل من يخالف أو حتى يسكت عن التأييد للحكام، ومن انهيار سيادة القانون في دولنا جميعاً ولو بدرجات مختلفة، إذ أصبح القانون – من قانون المرور إلى قانون الجنايات – لا يطبق إلا على الضعيف ولا يطول الكبراء والأمراء والأغنياء والمتحكمين في وسائل العنف في كل البلاد إذا تعارض مع مصالحهم، وساد قانون الغاب فعلياً في عدد من الدول بل أسوأ؛ لأن الحيوانات يأكل القوي الضعيف حين يجوع وهؤلاء الأقوياء يسفكون دماء الناس ويستحلون أموالهم وأعراضهم على شبع ودون ضرورة، ومن ضياع لمعنى العدالة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية، ومن احتكار السارقين لمال الله الذي هو مال الأمة وأتباعهم المأجورين لسياسات الإعلام وكراسي القضاة وخطط المؤسسات المدنية وألقاب المسؤولين بالدولة وأشرف المهن والرتب في مختلف الوزارات والهيئات، وأخيرا وليس آخراً ما يحدث من انفلات الناس من الحدود الدينية والأخلاقية واستباحة الثوابت والمبادئ والحرمات والعورات. ومفتاح الحل لأزماتنا أن يتفق أصحاب العقول على أن المشكلة الأساسية في عالمنا العربي والإسلامي هي الاستبداد.
والاستبداد ليس جديداً على البشرية بل هو قديم ومتأصل لدرجة أن رسائل الله تعالى الأخيرة للبشر في نصوصها المقدسة كان فيها حديث تفصيلي عن ثلاثة شخصيات هي رموز للاستبداد على مدار التاريخ: فرعون وقارون وهامان. لا يمكن أن نتقدم أو أن نقوم بثورة حقيقية دون أن نقضي على هذه الأشكال الثلاثة من الاستبداد: (١) الفرعونية و(٢) القارونية و(٣) الهامانية، أي منظومات الاستبداد (١) السياسي و(٢) الاقتصادي و(٣) الديني. لابد في الموجة التالية من الثورة إن شاء الله من تفكيك المنظومات السياسية والاقتصادية والدينية عربياً وإسلامياً، ثم إعادة صياغتها بناء على القيم والمبادىء والمصلحة العامة. أما الاستبداد الفرعوني السياسي فأساسه في عالمنا العربي والإسلامي في نظام الدولة الوطنية المسماة بالدولة الحديثة.
نعم هناك دول وطنية حديثة ذات نظم مستقرة وديمقراطية ومتحضرة في الشرق والغرب، ولكن العالم العربي والإسلامي يثبت مع الوقت أن فكرة الدول الوطنية ذات الحدود والسيادة والعصبية القومية فيه فكرة سيئة، وذلك لعدة اعتبارات: أصل تقسيم الدولة، ونظام الدولة السياسي، وعلاقتها بالدول الأخرى.
أولاً: أصل التقسيم الحدودي في غالب البلاد العربية والإسلامية هو إرادة المستعمر ومصلحته. المستعمرون في القرن العشرين كانوا ثم ما يزالون هم أكبر مستفيد من تقسيم بلاد الشام وفلسطين التاريخية، ومصر أو وادي النيل التاريخي، ودول الخليج العربي أي جزيرة العرب التاريخية، وبلاد المغرب العربي التاريخية، والقارة الهندية التاريخية، ومسلمو وسط آسيا، إلى آخر القائمة. التقسيم مصمم أساساً لخدمتهم وراجعوا التاريخ القريب. ولا يصح هنا الخلط بين حب الوطن والقوم والأرض التي ينشأ فيها الإنسان وما حولها، وبين الانتماء والتماهي مع دولة معينة ذات نظام سياسي بعينه، هذا الخلط الماكر الذي لعب عليه الساسة منذ عقود حتى شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير وأصبح التمييز فيه خيانة وفتنة وهلم جراً.
ثانياً: فكرة (السيادة) للدولة الوطنية لا تصح مع نظام استبدادي فاسد، ودون نظام تعددي للشراكة بين الشعوب وقياداتها وبين فئات وتيارات وأحزاب تلك الشعوب نفسها، ودون فصل حقيقي بين السلطات. وإلا اختلط مفهوم سيادة الدولة بخطيئة تأليه حكامها، وأصبحت مؤسسات الدولة نفسها أداة للفساد الأخلاقي وغسيل الأموال والجرائم ضد الإنسانية باسم سيادة الدولة، كما نرى في كل مكان في العالم العربي والإسلامي.
ثالثاً: التقسيم الوطني لا يصح أن يعزل مواطني (الدولة) عن الدول المجاورة التي تشترك معها في مساحات واسعة من الجغرافيا والتاريخ واللغة والدين، بل ولا عزلها عن الرقعة الأوسع من الدول الأخرى التي تشترك معها في مساحات من الإنسانية والثقافة والقيم العليا. ولكن دولنا الوطنية العربية كلها تقريبا تعادي وتحارب (دولا) أخرى تشترك معها في تاريخ طويل من الوحدة: جغرافيا واحدة ولغة واحدة وثقافة واحدة بل ومصير واحد. وحدود الدول العربية والإسلامية كلها مفتوحة وبتأشيرة ميسرة لدول الشرق والغرب خاصة المستعمرين القدماء والمعاصرين، ولكنها إلا ما ندر مغلقة بين بعضها البعض ولو كان الوافدون لاجئين مساكين هربوا من الموت برصاص الطغاة من الناس ولجأوا إلى أرض ليست بعيدة فيها أهل ليسوا غرباء، وكل هذا بحجة السيادة الوطنية الزائفة والمعاملة بالمثل! وهذه الانقسامية الطفولية لا تهدف إلا لخلق عداوات مصطنعة تثبت أصحاب الكراسي على كراسيهم، ولابد للموجة الثورية التالية أن تقتلعها بإذن الله تعالى.
وتفكيك الدولة الوطنية هنا لا يعني الفوضوية (الأناركية) التي ينادي بها البعض، وإنما يعني أن تعاد صياغة سياسات دولنا الوطنية العربية والإسلامية كلها هذه نحو الأولويات الاستراتيجية الإقليمية والإنسانية، لا الأجندات المحلية الضيقة، ونحو نظام للعدالة الاجتماعية على مستوى إقليمي بل وإنساني؟ ونحو توحدات وشراكات وانفتاحات على مستويات مختلفة شعبية وحكومية. لابد لعالمنا العربي والإسلامي أن يقود الإنسانية نحو نظام دولي جديد، لا على طريقة الفوضى الخلاقة التي ينادي بها المحافظون المتطرفون بل على طريقة نظام عالمي جديد يراعي مصالح الشعوب ويسمع لصوتها رأسمالياً كان أم اشتراكياً أم غير ذلك.
أما سؤال: كيف السبيل؟ فإجابته عندي في إقامة شراكات سياسية واسعة وحقيقية وليست زائفة وصولية، تتوجه نحو إقامة (الدولة المدنية). هذا عندي من أهم هذه الوسائل اليوم. الدولة المدنية التي تشكل أرضية مشتركة بين الإيديولوجيات المتصارعة تاريخياً في عالمنا العربي والإسلامية هي عندي أول الطريق نحو تفكيك الفرعونية الوطنية التي يعاني منها الجميع. ذلك أن نظام الدولة إذا تحول إلى تشاركية تعددية لا يطغى فيه عنصر من المجتمع (ولو كان العنصر الإسلامي) على العناصر الأخرى، مع الحفاظ على ثوابت الهوية التاريخية والأخلاقية – هذا النظام هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح السياسي والقرار السياساتي الاستراتيجي الرشيد.
وهكذا نفكك الفرعونية المستبدة المعاصرة: إعطاء أولوية لمصالح الشعوب المشتركة فوق مصالح الفئة الحاكمة، والسيادة للقانون والنظام لا للحاكم المتأله، وبناء شراكات ووحدات مدنية تعلو على الإيديولوجيات السياسية وتهدف إلى دولة مدنية تسهم في تسييل الحدود والتعصبات الوطنية الزائفة. والوسائل على أي حال كثيرة، فليعمل الجميع كل من زاوية رؤيته وحدود طاقاته. (قل كل يعمل على شاكلته فربكم هو أعلم بمن هو أهدى سبيلا). صدق الله العظيم.