سألني بعض الإخوة والأخوات عن قوانين تونس المقترحة التي تصاغ لتسوِّي بين الجنسين، أي بين الأخ والأخت، وبين الأب والأم في الميراث، وهو ما اقترحه بعض الحكام باسم مقاصد الشريعة.
والجواب أن “المساواة” ليست من مقاصد الشريعة؛ بل “العدل” و”القسط” هو المعنى المقاصدي السليم. صحيح أن الناس جميعاً خُلقوا من نفس واحدة، وأنهم سواسية لا فضل لعربي على أعجمي، ولكن هذا ينطبق على أصل الكرامة الإنسانية وعلى التكليف والثواب والعقاب الإلهي وعلى التشريعات التي لا تختلف فيها الحقوق والواجبات كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
أما في الحقوق والواجبات المالية والقانونية، فالناس ليسوا سواسية في الشريعة؛ إذ تختلف الحقوق والواجبات بين الناس حسب المسؤوليات التي كلّفوا إياها وحسب أحوالهم وقدراتهم. وإذا ساوينا بين الناس في الحقوق دون الواجبات فهو إخلال بالعدل، والشريعة عدل كلها.
الرجال والنساء ليسوا سواسية في المسؤوليات والحقوق المالية الشرعية؛ إذ كلفت الشريعة الزوج -مثلاً- الإنفاق وإعالة أسرته كلها، وجعلت المشاركة من الزوجة تفضُّلاً وصدقةً؛ إذ هي مكلفة رعاية الأطفال، خاصة في صغرهم.
قال تعالى عن النفقة من الأزواج: “لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا”، وقال عن واجبات الأم: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ”، وقال بعدها عن واجبات الأب: “وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ”، وقال عن حقوق الأمهات الأخرى: “أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ”، وقال عن الأب والأم: “وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ”.. وهكذا.
ولذلك، فقد تختلف أنصبة المواريث بين الرجال والنساء من الدرجة نفسها مثل الزوج والزوجة، والأب والأم، والأخ والأخت في حالات الوفاة المختلفة، فإذا مات الابن -مثلاً- ورثت أمه أكثر من أبيه في أغلب الحالات؛ لأنها تخسر -مالياً ومعنوياً- أكثر منه بوفاة ابنها، وإذا مات الأب ورث الابن أكثر من أخته؛ لأنه مسؤول عنها بعد أبيهما، فضلاً عن مسؤوليته عن أمه -التي هي أم أخته- وكذلك مسؤوليته عن زوجته وأولاده.
أما إذا لم يكن لتلك البنت أخ فترث أكثر؛ لأنها تفقد إعالة أخيها لها. وإذا مات الزوج -مثلاً- وكان له ابن، فهو يتولى رعاية أمه وترث الأم الثمن من التركة، وأما إذا لم يكن لها من يعولها من الولد فنصيبها الربع، وهو نصيب أكبر لفقدان المعيل… وهكذا.
وهكذا تتصور الشريعة نظاماً مالياً معيناً للأسرة، فيه تعريف معيَّن للرجولة والأنوثة؛ ومن ثم توزيع معيَّن للحقوق والمسؤوليات المالية والأدبية، وبناء عليه تُوزَّع أنصبة المواريث في حالات الوفاة المختلفة ونفقات الأسرة في حالات استمرار الزواج أو انفصامه بالطلاق، لا قدر الله.
صحيح أن الواقع الحالي للأسرة المسلمة فيه ظلم كبير للمرأة؛ لأنها في واقعنا متوقَّع منها أن تقوم بأكثر من المسؤوليات الشرعية وهي في الوقت نفسه تنال أقل من الحق الشرعي، وهذه إشكالية حقيقية؛ إذ إن نسبة كبيرة من النساء في المجتمعات المسلمة يعُلْن أولادهن؛ بل والأزواج كذلك.
وفي هذا جور بحقوق المرأة التي فصلتها الشريعة، وفي الوقت نفسه تحرم كثير من المجتمعات المسلمة المرأة من حقها الشرعي في الميراث وتعطي كل الميراث للأخ أو الزوج أو العم باسم الحفاظ على ثروة الأسرة أو القبيلة أو باسم تجنب تقسيم الأرض الموروثة، وغيرها من الاعتبارات الجاهلية التي أهدرتها الشريعة ولم تقم لها وزناً وتصرّ عليها بعض المجتمعات المسلمة فتهضم حقوق المرأة الشرعية.
ولكن الحل لظلم المرأة في مجتمعات المسلمين لا يكون بتبني منظومة الثقافة الغربية في “المساواة”، فيسوي القانون في الحقوق والواجبات بين الزوج والزوجة والأب والأم والأخ والأخت وهكذا، هذا ليس حلاً؛ لأنه يخلّ بالنظام الاجتماعي الإسلامي المنشود، والذي هو مبنيٌّ على تعريفات محددة للرجولة والأنوثة وما يتعلق بذلك من حقوق وواجبات.
الحل الصحيح المتوازن هو في أن تفرض سلطةُ القانون الحقوق الشرعية في النفقات بالقوة نفسها التي تُفرض بها الحقوق الشرعية في المواريث، وأن تصدر القوانين التي تجنِّد إمكانات الدولة لفرض المسؤوليات على الأب والزوج والأخ والابن كما تجندها لفرض المسؤوليات على المرأة أماً أو زوجةً أو حاضنةً، والحل كذلك أن تكون القوانين أكثر صرامة في ألا تُحرم أخت أو ابنة أو أم من النصيب الشرعي المفروض باسم العائلة أو القبيلة.
ولا يمنع -في حالات خاصة وليس كقانون عام- أن تكون في تشريعات الهبة والوصية مخارج لتحقيق العدل (وليس بالضرورة المساواة) في حالات خاصة، كالهبة أو الوصية لابنة أو ابن أو زوجة أو زوج أو غيرهم، حين يرى الواهب أو الموصي أنهم يستحقون في تركته أكثر من الفرائض لظروف معينة.
إذ إن الآية الصريحة تقول: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ”، ولاحظ كلمة “المعروف”، وهي آية ليست منسوخة كما ادَّعى عدد من الفقهاء؛ بل هي محكمة ومهمة في إحداث التوازن في الحالات المختلفة “وليس كقانون عام”، وقد كتبت عن ذلك تفصيلاً في بعض ما كتبت حول نقد نظرية النسخ.
وفي هذه الحالات خاصة، تُنفذ الهبة في حياة الواهب أو وصيته بعد وفاته قبل توزيع أنصبة الميراث كما تنص الآية “مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ”. وأما حديث “لا وصية لوارث”، فقد اختُلف في صحته أصلاً، ولكنه لو صح فله زيادة تقول “إلا أن يجيزها الورثة”، وهذا يعطي مساحة من المرونة في قضية الوصية.
ولكن الصورة الكلية، هي أنه لا بد من أن تبقى المحكّمات الشرعية ثابتة؛ لأن لها مقصودات تتعلق بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي، ولا يصح أن نلبس منظومة “حقوق الإنسان” -كما يفهمها الغرب- لباس مقاصد الشريعة، فالشريعة لها نظامها الخاص وهو أكمل وأعلى إذا طُبّق بشكل متكامل دون تجزئة مخلّة بمقاصده وأهدافه. والله أعلم.