هذه ورقة مختصرة تتناول علاقة مقاصد الشريعة بالاقتصاد الرقمي أو المعرفى، خاصة في وضع السياسات والأولويات التنموية، وفي الإسهام في تجنب سلبيات هذا الاقتصاد على الدول الضعيفة بشكل عام والإسلامية بشكل خاص. وتبدأ الورقة بمبحث يلخص تعريفات وتقسيمات المقاصد كما عّرفها السلف والخلف. ثم يقدم المبحث الثانى تعريفاً للاقتصاد المعرفى. ويسأل المبحث الثالث السؤال التالي: هل تعتبر المعلومات (مالاً) من الناحية الشرعية يترتب عليها ما يترتب على المال من آثار؟ ويشرح المبحث الرابع طريقة البنك الدولى في تقييـم قوة الاقتصاد المعرفى، ويسأل بعض الأسئلة. أما المبحث الخامس فيجيب عن سؤال: كيف يمكن لمقاصد الشريعة أن تسهم فى تخفيف الآثار السلبية وتصحيح الأولويات والسياسات التنموية المختلة؟ ثم يقدم المبحث السادس تصوراً عن كيفية إسهام مقاصد الشريعة فى تنمية الاقتصاد المعرفى عند المسلمين، وذلك عن طريق منهج التفكير المقاصدى ومقاصد حفظ العقل والحرية والعالمية. وتُختتم الورقة بخاتمة فيها خلاصة للأفكار المطروحة.
أولاً – فى تعريف المقاصد وأهميتها
مقاصد الشريعة هى المعانى والغايات التى بنيت عليها الشريعة كما استقرأها العلماء الراسخون وقسّموها إلى تقسيمات متنوعة. من هذه التقسيمات ما يراعى مدى ضرورة هذه الغايات والمصالح، وهو تقسيم السلف (فتنقسم المقاصد إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، والضرورات بدورها تنقسم إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال)،[1] ومنها ما يراعى مدى عموم هذه الغايات (فيقسمها إلى عام فى كل أبواب الشريعة، وخاص فى باب ما من أبواب الشريعة، وجزئى يختص بحكم ما)، ومنها ما يراعى نطاق هذه المعانى (فتُقسم إذن إلى كليات أصلية وجزئيات فرعية)، ومنها ما ينظر إلى المقاصد بمعنى النيات (أي نيات المكلف فى تصرفاته أوعقوده، أو نية وقصد الرسول صلى الله عليه وسلم فى تصرفاته الشريفة،[2] مثل قصد التبليغ وقصد القضاء وقصد الإمامة وغير ذلك) – على تقسيمات وتفصيلات تظهر في الأبحاث المقاصدية المعاصرة، وهي كثيرة بفضل الله تعالى.[3] أما المقاصد الجزئية بمعنى الحكم والأسرار والمعانى التى تترتب عليها الأحكام الجزئية، فلها اعتبار أساسى فى التعليل لهذه الأحكام، سواء نظرنا إليها من ناحية “دلالة الغاية”، أو من ناحية “مناسبة القياس”، أو من ناحية “قاعدة الاستحسان”، أو “المصلحة”، أو “الذريعة”، وغير ذلك من النواحى والأدوات الأصولية، ولكن الاعتبار الأهم – والذى يتعلق بهذا البحث – يتوجّه إلى المقاصد الكلية كأولويات فى التفكير الإسلامى.
فالعقل الإسلامى يغرق أحياناً فى الجزئيات على حساب الكليات، وتأسره تفصيلات المسائل والفتاوى فتمنعه من إعطاء الوزن اللازم للكليات الأصلية والاستراتيجيات التى تقدمها مقاصد الشريعة. وبالتالى، فالمقاصد فى هذا البحث عن الاقتصاد الرقمي أو المعرفي قضية منهجية أساسية تدخل أول ما تدخل فى وضع السياسات وترتيب الأولويات وطريقة التفكير، وليس فقط فى مناسبات أو مصالح أو علل الفتاوى الجزئية، وهذا ينطبق على المقاصد بتقسيماتها المختلفة سواء كانت تتعلق بضرورات حفظ العقل أو المال (وهما الضرورتان الأقرب لدائرة عمل الاقتصاد المعرفي، كما سيأتي)، أو كانت تتعلق بالكليات المقاصدية، كالعدل، والحرية، والعمران.
ثانياً – فى تعريف الاقتصاد المعرفى
منذ مائتى سنة أو تزيد تغير الاقتصاد العالمى تغيراً جذرياً بعد أن كان أساسه (الأرض والعمالة)، إلى أن يكون اقتصاداً أساسه (رأس المال والعمالة والطاقة)، وظلت هذه المنظومة قائمة إلى أن بدأ عصر المعلومات والحاسب ثم الإنترنت (شبكة الاتصال العالمية) والاتصالات الرقمية.[4] وبدأت المعلومات تغزو الاقتصاد العالمى بأن يكون لها قيمة تبادلية (أى تباع وتشترى)، بل وقيمة استعمالية (أى حق الاستعمال والانتفاع بالمعلومة بناء على “ملكية” المعلومة لشخص أو جهة ما). حتى إن بعض الصناعات المعاصرة (أو التجارات بالأحرى) هى تجارة فى المعلومات بنسبة 100%.[5] والاقتصاد المعرفى يتعلق بالمعرفة، والمعرفة أخصّ من المعلومة، فالمعلومات تصاغ فى معرفة أو فكرة أو تصميم ما، وهذا التصميم بفكرته التى بنى عليها هو الذى يحرك الاقتصاد الآن بما له من دخل بمنتجات حديثة انتجت بناء على هذه الفكرة وما يحمي الأفكار من قوانين تنظم حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وما إلى ذلك. إذن، فالاقتصاد المعرفى هو “إنتاج وإدارة الأفكار والمعرفة” من جهة، ومن جهة أخرى هو يتعلق بتحقيق “منافع اقتصادية بناء على هذه الأفكار”. وهذا الاقتصاد (الذى يتوجه اليه العالم اليوم) يقوم أول ما يقوم على ما يسمى “بالرأسمال الإنسانى”، أى أن عقل الإنسان وأفكاره (وليس فقط المعلومات المختزنة، بل الأفكار الجامعة لهذه المعلومات) هو القيمة الحقيقية، التى هى أثمن بكثير من يد هذا الإنسان وقوته، فضلاً عن الآلات والموارد الطبيعية الأخرى. وفى البلاد المتقدمة، يشكل العمال والموظفون الذين يستخدمون عقولهم ولا يستخدمون قوتهم البدنية نسبة 70% من مجموع العمالة.[6] وبالتالى، فإن الشركات الأكبر فى هذا العالم (مثل ميكروسوف وإنتل وفودافون وديزنى وغيرها)، قيمتها فى السوق أعلى بكثير جداً من قيمة رأس مالها وممتلكاتها الفعلية.